‘‘الرؤية‘‘ السعودية أمام تقلبات النفط وتداعيات المنطقة

2017-03-27 10:34

 

يُنظر إلى «الرؤية 2030» بأنها استراتيجية شاملة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وبناء منظومة اقتصادية حديثة تحد من حالة الاعتماد الكامل على عوائد النفط، وتنمّي القدرات الإنتاجية المتطورة في الصناعات المدنية والعسكرية وقطاع الخدمات، لتصبح المملكة، على أساس تلك الرؤية، واحدة من أهم اقتصاديات العالم.

وفي سياقات «الرؤية» التي يعتبرها كثير من المراقبين بأنها أهم «برنامج نظري» طموح في تاريخ المنطقة، تظل شركة أرامكو السعودية المكون الرائد في دينامية التحولات المرسومة، نظراً لوزنها المحوري في اقتصاد المملكة، فهي على رأس قائمة كبريات الشركات النفطية في العالم، وتنتج بمفردها ما نسبته 12% من الإنتاج العالمي، ولديها حجم هائل من الاحتياطيات القابلة للاستخراج من النفط الخام والمكثفات تصل إلى 261 مليار برميل.

 

ورغم بعض الاجتهادات وبيانات المواقع المتخصصة، إلا أنه، من الناحية العملية، لا تستطيع أي جهة في الوقت الحاضر أن تضع أرقاما ثابتة لتقدير قيمتها السوقية. ومع ذلك فإن طرح جزء من أسهم الشركة سيحقق عوائد مالية كبيرة وسيقود في الوقت ذاته إلى ارتفاع نوعي لقيمة الأسهم المحلية السعودية. 

من زاوية مقابلة يحث كثير من الاقتصاديين على عدم المبالغة في التوقعات، لأن العوائد تتناسب في الأساس مع كمية الأسهم وعدد المشاريع المطروحة للاكتتاب. والمملكة ربما لا تجازف إلا بطرح جزء ضئيل منها. كما أن المعلومات المتوفرة لا تشير إلى نوع الأسهم المزمع طرحها.. بمعنى هل ستكون من أسهم شركة أرامكو ذاتها، أو من أسهم الشركات التابعة والمشتركة التي تدير مشاريع مختلفة في صناعات التكرير والبتروكيماويات والتوزيع والخدمات الفنية واللوجستية وغيرها؟ وبالطبع ستكون هناك حاجة إلى معرفة كيفية إدارة القفزة المالية واستيعاب الطاقة الاستثمارية المُضافة وفق أولويات مدروسة بعناية.

وفي هذا المضمار بدأت تظهر بوادر تنافس بين بورصات عالمية، حيث من المتوقع أن يتم البدء بإدراج «جزء» من أسهم شركة أرامكو، خلال النصف الثاني من عام 2018 . ومن الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى عدد من أسواق الأوراق المالية، في مقدمتها بورصات نيويورك ولندن وهونغ كونغ، مع توقعات بأن يتم النظر في البعض الآخر مثل، سنغافورة، اليابان، تورونتو. وهذا الأمر بحاجة إلى دراسة عدة عوامل تتعلق بأهمية كل سوق مالية وأدائها، ضمن حزمة من المعايير الاقتصادية التي تلبي مصالح المملكة.

 

إشكالية الرؤية السعودية، حسب اعتقاد مراقبين، أنها أتت في ظروف معقدة للغاية، ألقت بظلالها على المملكة ووضعتها في حالة مواجهات متعددة. أهمها التحديات الخطيرة الناجمة عن عدم الاستقرار والحروب في المنطقة العربية، بالإضافة إلى المخاطر الجيوسياسية المتعددة التي تواجه المملكة، جراء التدخلات الإيرانية، ناهيك عن خطر الإرهاب، وغياب تحالفات إقليمية واسعة وثابتة. يرافق ذلك، ولأسباب موضوعية، اهتزاز الثقة بالحلفاء التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.

وبما أن المملكة السعودية دولة إقليمية رائدة تسعى لقيادة العالم الإسلامي، فإنها تتحمل العبء الأكبر في إدارة كثير من الملفات، خاصة ملف الأزمة اليمنية، الذي دفع بالمملكة إلى أن تقود تحالفا عربيا لمواجهة التمدد الإيراني في البلد الجار، بعد أن اقترب من أبوابها الجنوبية، وتسجل بذلك تحولا استراتيجيا تاريخيا في سياسات المواجهات المباشرة.

 

كل تلك الأزمات القريبة والبعيدة، التي تسببت بخسائر بشرية كبيرة، تعمل في الوقت ذاته وبصورة يومية على استنزاف كبير ومتواصل لموارد المملكة، في مرحلة تتهيأ فيها لإدارة التحولات الاقتصادية الكبرى، وفقاً للرؤية التي قيل عنها بأنها ظهرت للنور بعد دراسات عميقة ساهمت فيها جهات متعددة ومراكز متخصصة.

وعلى مستوى آخر هناك مسألة بالغة الأهمية تتعلق بتقلبات أسعار النفط، وبروز النفط الصخري كمنافس استراتيجي يعمل في كل الأحوال على إعادة تصميم نظام السوق العالمي، ويؤثر بصور مختلفة على أسعار النفط، بالقدر نفسه الذي يفعله النفط التقليدي. وربما تابع كثيرون منسوب التوتر داخل منظمة أوبك في الفترة الأخيرة، بسبب أداء الأسعار بعد الخفض في إنتاج المنظمة، وهو ما اعتُبر في وقت سابق إنجازا كبيرا بالاتفاق مع روسيا الاتحادية. لقد مثل صعود إنتاج النفط الصخري الأمريكي خلال شهر مارس هذا العام (4.87 مليون برميل/يوميا، حسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية) صدمة جديدة ربما لم تكن في حسبان الدول الأعضاء في منظمة أوبك، رغم أن الولايات المتحدة اتخذت تدابير معلنة لتحقيق الاستقلالية الكاملة عن النفط المستورد، كما تبنت حوافز ضريبية تشجع الشركات على الاستثمار ودعم التطوير المتسارع لتكنولوجيا استخراج النفط الصخري، بهدف تخفيض كُلَف الإنتاج إلى مستويات اقتصادية تمكنه من المنافسة الحقيقية. ورغم نمو الاقتصاد العالمي الذي يعد واحدا من أهم العوامل المؤثرة على أسعار النفط، إلا أن الأسعار وفقاً لتوقعات المملكة ومعها منظمة أوبك في الفترة الأخيرة كانت مخيبة للآمال.

 

عدم استقرار نظام السوق النفطي وبروز عوامل جديدة تراه بعض المراكز الاستشارية، ينطوي على ثنائية متلازمة، فهو من ناحية يمثل قوة دفع خلفي لأن تمضي المملكة رغم الصعوبات باتجاه إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية، ومن زاوية أخرى فإن ذلك سيؤثر على دخل المملكة من النفط، الذي يعتبر الرافد الأساسي لتنمية مصادر الدخل المتجدد وفقاً للرؤية 2030.

 

خلاصة القول: إن المملكة العربية السعودية تدرك أن هناك أمرا لم يعد يقبل التأجيل مهما كانت الظروف، يتمثل في الحاجة الملحة إلى مراجعات جذرية في سياساتها الاقتصادية والمالية. وبصرف النظر عن أن المملكة تقدمت قليلاً أو تأخرت كثيراً قبل أن تقارب تلك الضرورات من خلال رؤيتها المعلنة، إلا أن هناك شعورا طاغيا بأن الوقت حان أيضاً لإعادة تقييم شامل، وبصورة واقعية، لمتطلبات الحاضر والمستقبل التي تتناسب مع وزن المملكة ودورها.. ومعرفة التغييرات المنسجمة مع روح العصر.. خاصة وقد أصبح العالم على أبواب الثورة الصناعية الرابعة بكل ما تحمله من تحولات مذهلة ليس فقط في اقتصاديات العالم بل وفي حياة الأفراد والمجتمعات. وقد عايش العالم الانعكاسات العميقة التي خلفتها ثورة المعلومات وانفجار الميديا، وأصبحت مؤشرا معياريا لما سيأتي لاحقاً في سياق التطور المتسارع والطفرات المتوقعة. كل ذلك سيضع المملكة السعودية، ومعها بالطبع دول المنطقة، أمام مواجهات متنوعة وغير مسبوقة، وبالتأكيد سيدفعها إلى العمل المثابر مهما كان حجم التحديات الداخلية والخارجية.

كاتب سياسي جنوبي .. خبير نفطي – كندا