بين الأسفار والأركيولوجيا الخروج الشرق أوسطي الحديث بلا أرض موعودة

2017-03-07 02:55

 

فرضية الخروج التوراتي

الخروج التوراتي لبني إسرائيل من مصر الفرعونية إلى أرض كنعان سيظل، رغم المحاولات المتواترة لتتبعه وإحصائه، فرضية لاهوتية تتجاذبها كثير من الطروحات المتضادة، ولا تعززها بالمطلق أي دلائل علمية حقيقية ومقنعة. فالآثار المصرية التي تُعد الأرشيف الأعظم والأغنى في التاريخ البشري، وتمثل السجل المادي للذاكرة المصرية القديمة، اشتملت على تفاصيل لا حصر لها وأتاحت لكل الباحثين قراءة العصور القديمة بكل مراحلها وبصورة تفصيلية.

وعلى الرغم من أن تلك الآثار وثقت لكثير من الأحداث الرئيسية والثانوية وأتاحت للعقل البشري الحديث أن يطلع على موسوعة الفراعنة في كل جوانب الحياة والأحداث، لكنها لم تقدم أي شيء يُعتد به حول وجود بني إسرائيل، أو خروجهم بالطريقة التي وُصفت في أسفار العهد القديم «التناخ».

فنصوص الأسفار ذكرت أرضاً وقوماً وبلدات ومواقع بمسميات قديمة، ووصفت أحداثا، لم يستطع العلماء بكل وسائلهم الحديثة المتطورة إيجاد مقاربات علمية تؤيد العناصر التوراتية. لهذا ظهر كثير من التفسيرات التي تناقض تلك الرواية بصورة جوهرية، وتشير إلى أن بني إسرائيل كان لهم وجود محدود في مناطق مختلفة.. هاجروا وتنقلوا شأنهم شأن القبائل القديمة التي عاشت على رعي الأغنام والوسائل البدائية للعيش، وأن النصوص الدينية تحمل رمزية يجب بالضرورة ألا يتم فهمها حرفياً، أو إعادة رسم خرائط العالم الحديث، وبناء الدول العصرية وفقاً للرقائق والمخطوطات، التي حملت نصوصاً «مقدسة» أُعيدت صياغاتها مرات في مراحل زمنية متباعدة.. وتعاني من خلو أي دليل حسي على أنها كانت تاريخا محضا خاليا من الأساطير، تسجله الآثار وتستحضره المشخصات المادية بدون أي لَبْس.

في منطقة الشرق الأوسط تأسست اللبنات الأولى للمجتمع البشري الواعي والمنتج، وشُيدت حضارات قديمة وثرية، وكانت مهبطا للأديان السماوية الثلاثة، وموئلا للأساطير والميثولوجيا التي ما تزال تنفث شذراتها في مخزون التراث الروحي الهائل والمعقد، ويستمد منه المؤرخون وبعض الروائيين موادهم ويقدمونها لإنسان العصر الحديث في قوالب متنوعة. وفي هذا الخضم التاريخي المزدحم ليس مستغرباً أن تتداخل الأساطير مع الوقائع ويتم تزوير بعض النصوص الدينية، وأن تتدخل طبقات الكهنوت عبر الزمن لتغييرها، ثم يتم توظيفها تبعاً للخصوصيات والأهداف في كل حقبة.

 

تخصيب الفكرة اللاهوتية

العالم اليوم في غالبه يتقبل دولة إسرائيل كأمر واقع فقط، ويفهم في قرارة نفسه أن الوعد السماوي المفترض حاجة فائضة عن العقل الحديث، بل يفهم جيداً أن الخروج الحقيقي لليهود أتى بعد النكبات التي أصابتهم في أوروبا المسيحية ليتجمعوا بمساعدة أوروبا ذاتها في أرض فلسطين ويبنوا عليها دولتهم. هذا هو «السِفر» الحديث المرئي الذي لم يأتِ من الماضي السحيق.

ومع ذلك لم يتوقف الأمر هنا، فالفكرة التي قامت عليها دولة إسرائيل تتوسع مع الزمن لكي تصبح في المرحلة الثانية من تاريخها دولة عرقية دينية، من خلال مشروع يهودية الدولة، والاصطفاء العرقي لمواطنيها بكل ألوانهم وأطيافهم وطبقاتهم. وبصورة موازية تُبذل جهود إعلامية لتغطية الطموحات المسعورة للدولة اليهودية، كان آخرها محاولة حديثة لإعادة قراءة مشوار بني إسرائيل وخروجهم (Exodus) من خلال أفلام وثائقية عالية الجودة، بمؤثراتها البصرية وحرفية الإخراج المتطورة، وكم الرحلات والمشاهد والمختصين على اختلاف آرائهم.. لمحاولة إيجاد نمط بحثي جديد في سياقه الزماني والمكاني للحصول على أدلة عائمة فوق المراحل الزمنية للدولة الفرعونية.. والتجريب في منطقة أكثر عمقاً في العمود الأركيولوجي.. لإعادة تخصيب الفكرة اللاهوتية مجدداً من خلال تركيب أدلة مُجزّأة وناقصة ليس لها أي قيمة حقيقية في المقاييس العلمية.. لكنها تحاول وضع فرضية جديدة للزمن الذي عاش فيه بنو إسرائيل، وخروجهم من مصر إلى أرض كنعان، خلاف للنطاق الزمني الذي أثبتت الأبحاث خلوه من أي أثر يُذكر.

 

السؤال المسكوت عنه

وفي وسط هذا الهوس لتتبع خطوات قوم موسى عليه السلام يلوح في كل مرة سؤال مسكوت عنه: كيف للسماء أن تنقذ شعب بني إسرائيل من الاضطهاد داخل الدولة الفرعونية، وفي الوقت ذاته تعده بأرض مسكونة وتجيز له أن يحرق بلداتها ويقتل أهلها وينكل بهم؟ هل السماء أنقذت «شعبها المختار» لتبيح له دماء أريحا وبلدات كنعان؟ وما الحكمة الإلهية من وراء ذلك؟ وهل أجازت لهم السماء في العصر الحالي أيضاً أن يدشنوا الخروج الثاني من كل دول العالم هذه المرة إلى الأرض ذاتها ويقتلوا شعبها ويطردوا سكانها، عطفاً على الوعد الإلهي القديم؟ أليس هذا أمرا شديد الغرابة؟ والأغرب منه أن يحاول العالم الحر الحديث تسويقه بشتى الوسائل. ألم يقتل المتطرفون الجدد من يخالفهم في الدين مستندين إلى تفسيرهم بأن السماء تجيز لهم ذلك وأنهم قوم مختارون؟ ما الفرق إذن بين تلك التفسيرات؟

 

الخروج الشرق أوسطي

إذا كان هناك «خروج» حقيقي في التاريخ فهو خروج الشعوب العربية من أوطانها. فتهجير الشعب الفلسطيني بسبب الإحتلال والاستيطان، ومصادرة الأرض والاضطهاد العرقي وحروب الإبادة المستمرة، ماثل للعيان. لم يأتِ من «أسفار موسى» أو من شيفرة هيروغليفية. كما أنه لا يحتاج إلى استثمار هوليوودي لتصوير حفريات تنبش «رسماً على حجر» ليقرأه من تخمرت لديهم في اللاوعي فكرة الخروج التوراتي ويبحثون فقط عما يحدث أي اختراق للقناعة السائدة بأن المحتوى الارضي خال تماماً من أي شواهد للحكاية.

هذا ليس كل شيء فبعد عقود من «الخروج الفلسطيني»، وبصورة تراجيدية، تنزح قسراً قطاعات واسعة من الشعوب العربية، جراء الحروب الظالمة والتدخلات الأجنبية بدءاً بتدمير الدولة العراقية وانتهاء بالتدخلات العنيفة والمجازر الوحشية المرتكبة في سوريا وغيرها من بلدان العرب، وتحويل المنطقة إلى بقع حمراء متوترة منفرة لشعوبها.

الخروج الشرق أوسطي الحديث ما يزال نازفاً.. أحرقت الحروب بنيرانها مئات الآلاف من الضحايا.. وابتلعت البحور المظلمة آلاف النازحين من ديارهم للبحث عن مصير آمن.. وبلاد الله الواسعة أغلقت كثير منها الأبواب أمامهم وأقامت الأسوار حولهم. لم تعدهم السماء بأرض بديلة ولا ببلدات يدمرونها ويقيمون بها على أنقاض بيوتها وعلى أشلاء أهلها.. مثلما حصل في «الأسفار المقدسة»، التي أرهقت الغرب، بعد آلاف السنين، بوسائله وبتقنياته المتطورة لإثبات صحتها بالقوة الناعمة والقوة العنيفة. وبعد عقود من احتلال فلسطين وما تلاه من كوارث على بلاد العرب حتى الآن، ما يزال الغرب يحاول أن «يحيك» منطقة الشرق الأوسط، بدولها وبتاريخها وبمحتواها البشري الهائل وبمواردها، على مقاس دولة بني اسرائيل.

 

أصل الحكاية

الأديان لها قدسيتها، لكن أحداً من المؤمنين لا يجزم بأن النصوص التوراتية القديمة لم تتعرض للتبديل والتغيير والتزوير عبر التاريخ، حيث اختلط الفعل بالأسطورة. والأركيولوجيا، خلافاً لذلك، منهج علمي لاكتشاف الماضي ونشاطات الأمم وتتبع أزمنتها وأماكنها وأفعالها وتستخرج من تحت سطح الأرض الآثار المادية لحقب التاريخ الإنساني. ولكل منهما شأن مختلف. لهذا يعتبر السياسيون في دولة إسرائيل أن الأركيولوجيا إذا لم تقدم لهم دليلا لحقهم المقدس فإن النصوص الدينية كافية، بل ذهب بعضهم الى القول في نهاية الفيلم الوثائقي الحديث Patterns of Evidence «إن الأسطورة كافية بالنسبة لنا فنحن أصبحنا أصحاب الأرض».

هنا يتوقف البحث، ويتوقف حتى منطق «الوعد السماوي» لينوب عنه منطق الاحتلال الفصيح ومن ورائه قوة الدول العظمى، يقابله الشرق ومن ورائه ضعف دوله الصغرى. تلك، أيها السادة، أصل الحكاية.