كنت في الطريق عائد من التواهي باتجاه المعلا اثناء صلاة المغرب, ذهبت لإداء الصلاة في اقرب مسجد على الطريق, دخلت مسجد الروضة في القلوعة, وصلت وقد مضى وقت صلاة الجماعة, كالعادة أديت الصلاة واصوات التاليين اشبه بحلية النحل, لم أكترث لما يدور حولي فكما هو معهود اناس يقرأون القرآن كلا منهم منهمك مع نفسه ينظر الى كتاب الله بين يديه.
بعد ان أنتهيت جلست فرأيت أمامي رجل كبير في السن يصب بعض القهوة ويقدمهما الى رجل طاعن في السن بجانبه وهو يتلو القرآن تكاد لحيته تسبح بين أيات المصحف رغم قصرها, واذا به يأخذ القدح(الكوب) ويتبادلا بعض الكلمات ممزوجة ببسماتهم الجميلة ويعود الآخر ليقرئ ثم يمد يده الركيكة المرتعشة ويرتشف ثم يقرى وهكذا.. نظرت للمسن الآخر فإذا به يصب كوبآ آخر من القهوة لمسن آخر ايضآ, قلت في نفسي " جلهم مسنين! ألا ترى هذا غريبآ?".
أثار هذا المشهد في نفسي الفضول لأن ألتفت هنا وهناك لأرى ماحولي في جنبات المسجد, فإذا بي أرى مشاهد شدتني أكثر وأكثر ودفعتني الى التأمل فيها, مشاهد بعثت في نفسي الشعور بالأنس وادخلت في قلبي شيء من السعادة, ورغم انشغالي مكثت قليلآ لإحساسي بروعة المنظر والمسمع وألفة المكان, متعة جميلة أتت عن طريق الصدفة جعلتني أعيش روحانية الضوضاء المؤنسة في بيت الله.
سألت نفسي! "هل هذه أحد ليالي رمضان?" المسجد مليئ بالتاليين والذاكرين, وما هالني هو رؤيتي لكبار السن الذين كانت لحاهم البيضاء والحمراء تعكس النور من على وجوههم وكأنها قناديل معلقة على أسقف من فضة, منهم المنهمكين بتلاوة كتاب الله من على المصحف ومنهم من كانوا يتلونه عن ظهر قلب(غيبآ), وما يميز البعض تلك النظارات المتدلية أمام اعينهم وكبر حجم المصحف بين أيديهم ولم يجبرهم ضعف النظر على عدم تلاوة كتاب الله, فلقد كانوا يتلونه بجهد ممزوج بحب وشغف.
كان لكلآ منهم صوتآ مختلف ليس في النبرات فحسب, ولكن في اللحن والنطق ومخارج الحروف, وما اجملهم أولائك الذين فقدوا اسنانهم! كان يضاف لحلاوة القرآن عذوبة عندما يلفضون بعض الكلمات, لم يتأثروا بأصوات المقرئين الجدد كالسديس والمعيقلي والشريم والعفاسي وغيرهم, الحانهم هي هي تلك القديمة التي أعتدت ان اسمعها وانا طفل صغير من على افواه الطاعنين في السن في قريتي الصغيرة عند تلاوتهم لكتاب الله.
هناك ايضآ من هم مستأنسين بحديثهم لبعض والبسمة تزين وجوههم التي ترك الكبر بصمته عليها, يتحدثون وكأن سنين طويلة مضت منذ ان رأوا بعضهم بعض, وكأن لم يكن ذاك المسجد يجمعهم كل وقت, ومن خلال ملامحهم تشعر انك تقف أمام بشر لازالوا على طيبتهم وبراءتهم وبساطتهم وتواضعهم, لم تؤثر فيهم حداثة هذا الزمان المليئ والغارق بكل أصناف الحقد والكراهية والبغض وغيره من الطباع السيئة, قلوبهم لازالت طيبة بيضاء كما لحاهم, والسنتهم لا تتفوه إلا بكل جميل وحسن, تنطق البراءة من بين اعينهم.
إقتربت من أحدهم لأحدثه عن شعوري, وضعت يدي على كتفه وقبل ان اتحدث التفت إلي ورسم ابتسامه شعرت بجمالها داخل قلبي واحسست كانه يعرفني منذ زمن, وبعد أن عرفته عني وسالته عن اسمه وحاله وهل يسكن هذا الحي! فقال لي ببراءة "المكان مزعج صحيح" قالها وهو يبتسم ضنآ منه انني انزعجت من اصوات التالين وحركة المسنين داخل المسجد وانا أصلي, فوضحت له "بل بالعكس انني مستمتع بهذا الجو الروحاني العذب".
سالته, "هل تؤيدون فكر أو حركة إسلامية دون غيرها او تتعاملون بمصطلحات مثل هذا مبتدع وهذا كافر أو جماعة كذا او اتباع الشيخ الفلاني " قال "لا, نحن كما ترى نصلي لله ونقرى القرآن ونتبع سنة رسول الله, هكذا نحن لا نعرف شيئآ مما تقول". .
سالته عن حال بعض الشباب المتدينين اليوم وخروجهم عن الاعتدال الذي كان عليه آبائهم وأجدادهم واصبحوا يتكتلون على شكل جماعات كلآ منها لاتوافق الأخرى, لا يستقون الافكار الدينية الا من اشخاص محددين تابعين لجماعتهم, يكفرون هذا ويصفون ذاك بالمبتدع , يتنافسون على المساجد حتى وصل الحال ببعضهم الى اقتحام بعضها وطرد أئمتها بالقوة واستبداله بإمام تابع لجماعاتهم بحجة ان ذاك الإمام مبتدع او ما شابه... ناهيك عن جماعات التطرف والارهاب التي ترتكب افضع الجرائم بحق الأبرياء من قتل وسفك للدماء وتخويف وترويع الناس وغيره,.. رد علي ذاك المسن بتنهيدة طويلة وقال "الله يهديهم" وعلامات الحزن تكتسي وجهه.
ودعته حينها وخرجت من المسجد وروحي معلقة بذاك المسنين وترانيم تلاواتهم تطرب سامعي ومشاهدهم تلك لا تراوح مخيلتي , وتمنيت من الله -إن أمد بعمري- ان أقضي اواخر ايامي في سكن بحانب مسجد مثل مسجد الروضة مع صحبة لهم قلوب طيبة وبريئة ونقية وبسيطة مثلما شاهدت من أولائك المسنين.
هكذا هي مدينة عدن الجميلة ليس بجغرافيتها ولا بموقعها فحسب ولكنها جميلة بطباع أهلها وتعاملاتهم وحتى تدينهم , فمن أراد ان يعرف معنى عدن الحقيقي فعليه ان يذهب إلى أحد مسنيها ففيهم يرى ضالته, وبما إن تلك اللحظات قد تركت في نفسي اثرآ عميقآ, أحببت أن أروي تفاصيلها لكم علها تروق إعجابكم.
*- فؤاد جباري