مع أن كوكب المريخ لا يمتلك، بالدليل العلمي القاطع، ما يشير إلى وجود بيئة مؤهلة للتطور البيولوجي كما هو الحال على كوكب الأرض، إلا أن صورةً لهيئة «إنسان مريخي» فوق الكوكب الأحمر قد أطلقت قبل سنوات موجة من الاجتهادات لإيجاد معالجات ذهنية بعيدة عن الحسابات العلمية.
ما يعني أن البشر، حتى بعد أن وصلوا إلى زمن أصبحت فيه المعارف والعلوم منهجاً حصرياً لتفسير الظواهر الكونية، على استعداد للتعامل الجاد، وربما قبول فرضيات مختلفة حول صور مماثلة، حتى إن كانت مجرد خدعة بصرية أو أجسام مشابهة لهيئة إنسان. ربما يقود ذلك الأمر إلى تساؤل مهم للغاية: لو كانت هناك فرضية ملتبسة منذ عهود سحيقة، تدعي بأن مخلوقات «لا أرضية» أتت إلى كوكب الأرض وعاشت في مكان محدد حيناً من الدهر ثم تفرقت، وأصبحت أخبارها مسلّمة راسخة، دونتها الرقائق والمخطوطات ونسبت إليها وقائع تختلط فيها الأساطير والتواريخ، وتم من أجلها استنباط دلالات عامة من نصوص مقدسة، ثم تحورت وتطورت عبر الأزمنة إلى أن أصبحت في «حاضرنا مثلاً» أشبه بالنقش الأحفوري في اللاوعي، وموروثا مقبولا عند شريحة كبيرة من البشر… فإن دحضها لن يكون أمراً هيناً، حتى يثبت العلم بشكل مطلق ونهائي استحالة وجود أي آثار قديمة حقيقية في المكان والزمان الافتراضيين لوجودهم، عندها ربما يعاد تفسير الأشياء بشكل مختلف.
الوقوف على هذه المقاربة الذهنية ربما يقودنا بشكل صادم إلى مسألة شجية للغاية، تتعلق بما أنتجته بعض «الفرضيات السائدة»، إن صح التعبير، والتي لا يؤيدها كثير من التاريخ الحقيقي، في ظل غياب أي آثار عينية واضحة، فتسببت، وما تزال بوقائع مرعبة، وأهمها بالطبع تلك التي نعايشها في حاضرنا والمتعلقة بـ»أرض الميعاد» التي تجذرت في اللاهوت العقيدي كمسألة إيمانية، ثم تطورت عبر الأجيال حتى أتى زمن تمازج فيه «الوعد الإلهي» بالطموحات السياسية لمنتسبي الديانة اليهودية، في ظروف تاريخية معروفة هيمنت على القارة الأوروبية، لتشتعل على إثرها لاحقاً أخطر الصراعات غير المسبوقة في تاريخ المنطقة العربية.
لا يوجد في الكتب السماوية تعريف مؤكد، وبالطبع، لا توجد إحداثيات جغرافية أو مساحة بالكيلومترات المربعة لأرض الميعاد بحدودها وامتداداتها. وبالقدر الذي يستطيع علماء الجيولوجيا، نظرياً، إعادة بناء نموذج أرضي في حقبة زمنية غابرة، فإن علماء الآثار والدراسات الأركيولوجية، لن يفلحوا بوضع رسم مبين أو خرائط واقعية لمسارات وتموضعات بني إسرائيل، إلا في سياق تاريخ أقوام وقبائل منطقة الشرق الأوسط، باعتبارهم جزءا من أمم قديمة متشابهة ومتداخلة في بيئتها وبدائيتها، وفي حلها وترحالها، وحضورها وضياعها، وكذلك في قراها وممالكها الصغيرة.
فهم ليسوا أمة «مريخيّة» وفدت إلى الأرض، إلى عنوان محدد وحصري مسجل باسمها في اللوح المحفوظ إلى يوم الدين. كما أنه وفقاً لبعض المؤرخين لا تنطبق المواصفات الطوبوغرافية لفلسطين اليوم مع تلك الأرض الموعودة التي تصفها إصحاحات التوراة.
فما هي حقيقة تلك الأرض؟ وهل تتناسب مساحتها مع حجم وعدد بني اسرائيل آنذاك؟ ولماذا لا توجد لهم أي آثار حقيقية تشير إلى الوجود الحضاري التاريخي القوي لممالكهم، أو ما يدل بشكل جلي وموثق عن تلك الهجرة «المقدسة» زماناً ومكاناً نحو الأرض الموعودة؟ لماذا أجاز «الرب» لهم، في حروبهم القديمة والحديثة، إبادة الآخرين، لكي يُزيحوا شعباً من أرض ليست لهم؟ وماذا قدموا للبشرية وفعلوا أو أنتجوا لها حتى يتميزوا عن غيرهم من الأمم؟ وما الفرق بين بني إسرائيل الأصليين كجزء من البيئة التاريخية لشعوب «الجاهلية الأولى» أو «العرب البائدة» وبين يهود الدنيا الذين استوطنهم هاجس أرض الميعاد حتى استوطنوها؟
أسئلة بحاجة إلى مزيد من البحث العميق المفصل، وإلى دراسات وبحوث تاريخية وتنقيب ميداني بمنهجية علمية حديثة، بعيداً عن النصوص الدينية المقدسة. ومن منظور آخر، هناك حاجة لبلورة العوامل التي ساعدت على تماسك وتطور الوعي العرقي والسلالي وارتباطه الوثيق بـ»الحق التاريخي» في أرض الميعاد، الذي تُرجم حديثاً، وفقاً لأهداف الحركة الصهيونية، في إنشاء دولة إسرائيل، التي تذهب حالياً لما هو أبعد من ذلك، نحو فرض أيديولوجية النقاء الديني والعرقي للدولة، التي «يُفترض» أن ينتسب إليها كل يهود الدنيا بمختلف ألوانهم وهوياتهم العصرية.
تؤيدهم في ذلك، وفي موقف يعكس درجة غير مسبوقة من النفاق التاريخي، دول عظمى تؤمن بالتنوع الحضاري والعرقي في إطار دولها الحديثة، بينما تقدس عنصرية إسرائيل وحقها المطلق في أن تظل ضمن أعراف السياسات الدولية والمنظمات الأممية، كمحمية ذات الخصوصية العرقية الرفيعة والمقدسة التي لا تُمس ولا تُنتقد مهما اقترفت من جرائم وآثام.
تلك الأسئلة المتواترة كانت دائماً جديرة بإعادة التفكير في كل شيء يتعلق بأخطر تراجيديا تشهدها البشرية في العصر الحديث، وإعادة التفكير لن يتم إلا بإنجازات وبحوث علمية وتاريخية تهدف إلى الدحض المبين للفكرة الاستيطانية المستندة إلى نصوص دينية شديدة الالتباس، وتفتقر لأي منطق عقلاني في العصر الحديث.