كلما دخل شهر سبتمبر يقف كثير من اليمنيين عند سؤال واضح: «ماذا أنجزت ثورة سبتمبر 1962م لليمن؟»، وحتى أعوام قليلة مضت كان غالبية من اليمنيين يعيشون على ضفة أخرى من أوهام منجزات الثورة السبتمبرية المجيدة، وفي ذات السياق يتحسر آخرون على اليمن الذي لم ينجح في الانتقال من اللادولة إلى الدولة.. المتحسرون هم أكثر الموجوعين على بلد عربي أفرط أبناؤه في حقه كوطن يمتلك المخزون الثقافي العربي الأعرق بين أقرانه غير أنه فشل تماماً في مهمته بينما نجح الآخرون من حوله.
عندما اجتاح الحوثيون عُمران في الثلث الأول من العام 2014م تساءلنا بين يديّ الثورة السبتمبرية العريقة إن كانت الإمامة قد استردت روحها وانبعثت من بين تراكمات التاريخ والعقيدة والمذهب والقبيلة وحتى الصخور والوديان السحيقة؟.. لا نجد إجابات تشفي الصدور الملتهبة عند مشهد المجنزرات التي عبرت من صعدّة إلى دمّاج حتى اقتحمت عُمران لتقرع باب صنعاء الكبير وتكسره في 21 سبتمبر 2014م لتعلن حقيقة 26 سبتمبر 1962م أمام اليمنيين والعالم.
نشأ تزاوج بين البنية الاجتماعية القبلية، بنمط حياتها المتسم بالصراع الدائم، تحت ظروف بيئية صعبة، أصبح القتال فيها مصدراً رئيسياً للرزق، وأصبحت العصبية القبلية ملاذاً للفرد يكفل له الأمن والحماية، نشأ تزاوج بين هذه البنية وبين الإمامة الزيدية، التي أعلنت مبدأ الخروج ورفضت مبادئ الشيعة الإمامية بفرعيها (الإثنا عشري والإسماعيلي)، وعلى وجه الخصوص، مبادئ التقية والعصمة والرجعة والمهدية، فتخلصت بذلك من كثير من الأساطير والأوهام الغيبية، وأضحت إمامة واقعية، تحقق حلمها على الأرض بالسيف ولا تنتظره حتى يهبط من السماء، أو يأتي من وراء الغيب، وتجاهر أعداءها بالعداء، ولا تتقي أذاهم بالمخاتلة وتصنّع الولاء الزائف.
هذه الخلفية الفكرية السياسية ناسبت حياة القبيلة اليمنية، فاستوطنت الإمامة الزيدية في اليمن، في تربة وجدتها صالحة لها وتداخلت مصالح القبيلة بمصالح الإمامة لتغدو نسيجاً واحداً، مما سهل بقاء الإمامة وامتداد عمرها، حتى جاوز ألف عام.
الوجود السياسي للإمامة انتهى بقيام ثورة سبتمبر 1962م غير أن روحها استمرت في الوجود، متجلية في الحاكم الجمهوري، الذي ورث من الإمامة أسوأ ما فيها، وهو نهجها الفردي الاستبدادي، مع افتقاره إلى أهم شروطها، ولاسيما العلم، الذي يبلغ درجة الاجتهاد، أما القبيلة فقد بقيت بكيانها وبإرثها التاريخي تمارس حياتها وتأثيرها، رغم انتهاء كيان الإمامة السياسي، وذلك لأن كيان القبيلة لا يمثل وجوداً سياسياً طارئاً كالإمامة يمكن إنهاؤه بثورة، بل هي بنية اجتماعية وأسلوب في الحياة ونمط في التفكير وطرائق في السلوك، لا يمكن تجاوزها إلا عبر عملية تطور طبيعي طويل، أو عملية تطوير مدروسة للواقع الاقتصادي والسياسي، مسنودة بجهد عالٍ، في مجال الاقتصاد والتعليم والتثقيف وتنمية القيم الملائمة للعصر كقيمة العمل واحترام الوقت وتكريس مفهوم الكسب المشروع الناجم عن العمل ليحل محل مفاهيم الفيد والاستيلاء على المال العام ووضع اليد على المال الخاص، مع تأكيد مرجعية الدستور والقانون وتعزيز سلطة الدولة وحسن أداء أجهزتها وعدالة القضاء واستقلاله، وبناء أجهزة عسكرية وأمنية، ذات طابع وطني شامل مما سيؤدي إلى تذويب الولاءات العشائرية والمناطقية والمذهبية، وتصعيدها إلى مستوى الولاء الوطني والتبعية للدولة وللعمل المنتج، بدلاً من التبعية للقبيلة ولشيخ القبيلة.
ثمة محور رئيسي هنا لطالما تغافل عنه المعنيون من باحثين أو حتى من النخبة الفكرية والسياسية اليمنية وهي أن الضباط الذين قاموا بثورة 26 سبتمبر 1962م استوردوا كل ما في ثورة (الضباط الأحرار) في مصر بكامل تفاصيلها من جانب المصطلحات والتطبيقات، الخطأ الجسيم وقع عند واقع اليمن الذي لا يتقاطع مع مصر التي كانت قبل ثورة يوليو 1952م تعيش في دولة مؤسسات كاملة بخلاف اليمن التي كانت ما تزال بعيدة عن كل الحياة المدنية، هذا الخطأ أوقع اليمن في المزاوجة بين القبيلة والجمهورية، لقد تسلمت ثورة سبتمبر من العهد الإمامي وطناً بلا إدارة حديثة وبلا اقتصاد وبلا مرافق خدمية، أي -بلا دولة-، بالمعنى الحديث للدولة، وهذا ما سهل للبنية الاجتماعية (القبيلة)، التي ارتكزت عليها الإمامة، أن تواصل دورها القديم في إطار العهد الجديد (العهد الجمهوري)، بل وتُعظّم هذا الدور بفعل عوامل داخلية وخارجية مستجدة، محبطةً كل جهود التحديث لتستمر روح الإمامة، في ثوبها الجمهوري الجديد وتعود في نهاية الأمر إلى أصلها، المتمثل بحكم الأسرة وولاية العهد. علماً بأن ولاية العهد في حد ذاتها ليست جزءاً من بنية الفكر السياسي الزيدي، بل هي فكرة دخيلة عليه ومناقضة له، فُرضت في بعض مراحل تاريخ الإمامة الزيدية، بحكم الواقع لا بمقتضى الفكر، فالفكر السياسي الزيدي يضع شروطاً لتولي منصب الإمامة، أقل ما يقال فيها أنها تتوخى الكمال في شخص الحاكم، من علم يبلغ درجة الاجتهاد وورع وأمانة وكرم وشجاعة، وإن كان قد تم التفريط ببعضها، وأحياناً بمعظمها، خلال تاريخ الإمامة الممتد في اليمن وتم إهمالها في العهد الجمهوري ومن اللافت للنظر أن وجود القبيلة ودورها ظل الثابت الأبرز والأهم، في العهدين الإمامي والجمهوري مع التأكيد على أن دورها السياسي والاقتصادي، على وجه التحديد، قد تضخم في العهد الجمهوري، تضخماً لم تشهده كل عهود الإمامة، من الإمام الهادي ويحيى بن الحسين إلى الإمام المنصور محمد وحتى البدر.
بعد نجاح الثورة في اليمن وجدت الاستخبارات المصرية نفسها أمام حقيقة أن الضباط اليمنيين لا يمتلكون جيشاً عسكرياً يستطيع الدفاع عن النظام الجديد، لجأت قيادة الثورة والقيادة المصرية إلى الاعتماد على القوة القتالية للقبيلة اليمنية، ومن هذا الباب تسلل النفوذ القبلي وانفتحت شهيته، بسبب ضعف قيادة الدولة الجديدة وافتقارها إلى مشروع وطني واضح يتضمن رؤية لبناء الدولة المدنية الحديثة، انفتحت شهية النفوذ القبلي لممارسة دور سياسي واقتصادي متعاظم، لم يكن متاحاً في عهود الإمامة، وبلغ الأمر مداه في الثلاثة العقود المنصرمة، التي أضحى دور القبيلة في الحكم وسيطرتها على مفاتيح النشاط الاقتصادي دوراً سافراً ومشروعاً، ويتجاوز الضوابط والقواعد الدستورية والقانونية، فغدت القبيلة هي الدولة والدولة هي القبيلة.
عندما سُئل إبراهيم الحمدي ذات مرة، عن الملكية والجمهورية، أجاب ما يهم هو جوهر النظام وليس شكله.. وبعد أكثر من قرنين من الثورة الفرنسية، لا يلمس الناس فروقاً جوهريه بين المملكة المتحدة وجمهورية فرنسا، حصل ذلك في أوروبا التي غرقت في قرون طويلة فيما غرق فيه اليمنيين كشعب من الشعوب العربية، في اليمن لم يحصل التحول من اللادولة إلى الدولة فبعد تحقيق الوحدة اليمنية 1990م، تمكن نظام الحكم في الشمال، بخصائصه القبلية، من مد نفوذه إلى الجنوب الذي كان قد تجاوز -ولو نظرياً- المرجعيات العشائرية والمناطقية وتأثيراتها السلبية على الدولة، وإن بقيت هذه المرجعيات كامنة تحت الرماد، تنبعث بين الحين والآخر في لحظات الصراعات السياسية التي كانت تنشب بين أطراف النخبة السياسية الحاكمة فيستدعي كل طرف الإرث القبلي والمناطقي المتخلف ليستقوي به على الطرف الآخر، دافعاً إلى الخلف ما حققته عملية التوحيد والتنمية والتحديث، وملحقة الضرر بالقيم الحديثة الحاكمة للعلاقة بين الدولة والمواطنين بمختلف انتماءاتهم المناطقية والعشائرية.
جاءت حرب صيف 1994م لتشكل مفصلاً هاماً وقد مثلت تلك الحرب حدثاً مفصلياً، أضحى الجنوب بعده ملحقاً بالشمال ومختبراً لعمليات استنساخ التجربة الشمالية سياسة واقتصاداً وثقافة وتعليماً وقيماً، وتعميمها على الساحة الجنوبية بكاملها، ولم تسلم حتى مدينة عدن من عواصف التخلف المدمرة القادمة من الشمال. مدينة عدن هذه التي كانت إلى وقت قريب حاضرة الجزيرة العربية كلها، ومركز الإشعاع والتحديث الأكثر أهمية فيها، أريد لها أن (تَتَقَبْيَل)، وأن يكون لها شيوخ، على رأسهم شيخ مشايخ، هل يمكن لعاقل أن يتصور هذا الإسفاف والسفه، عدن المدينة التي لم تعرف معنى القبيلة والعشيرة والتي يتكون نسيج سكانها من مختلف مناطق اليمن وغير اليمن، ومن مختلف الطوائف والعشائر والأجناس، عربية وغير عربية، نسيج تكون عبر الزمن وتيمنن فيه الهندي والباكستاني والجاوي والصومالي وغيرهم وأصبحوا جميعاً بنية اجتماعية مدنية واحدة يصعب التفريق والتمييز بين مكوناتها. عدن هذه أريد لها أن تنقسم إلى عشائر ومشيخات، هذا معلم بارز من معالم الدولة - القبيلة، أو دولة القبيلة، التي كرستها سلطة الشمال، وعمدت إلى تعميم ثقافتها وقيمها وسلوكها ونظرتها إلى جميع المحافظات الجنوبية التي كانت تعيش قبل الوحدة وضعاً أكثر رقياً بمقاييس الحياة المدنية الحديثة، من المحافظات الشمالية، كان هناك ثمة خطوات لاستهداف ثلث المساحة الجغرافية التي تُشكل اليمن، تماماً مثلما دُمرت إمكانيات وفرص بناء الدولة المدنية الحديثة في الشمال، ومحيت أهداف ثورة سبتمبر وقبرت أحلام المواطن اليمني التي علقها على الثورة وقدم تضحياته من أجل تحقيقها، وأصبحت تبدو اليوم أبعد منالاً، مما كانت عليه في فجر الثورة.
العلاقة في اليمن بين المكون السياسي والقبلي هي علاقة تزاوج بين القبيلة والسلطة على حساب الدولة - الأمة، وبالتالي فإن هذا النوع من التزاوج يشكل عائقاً للانتقال إلى الدولة الحديثة، وإذا كان علماء القانون الدستوري يضعون عناصر أربعة للحديث عن الدولة: وهي عنصر الإنسان، والإقليم، والسلطة السياسية، والاعتراف الدولي كمعطى جديد في النظام الدولي المعاصر، لا نستطيع أن نجزم بوجود الدولة في اليمن بسبب تفوق عنصر القبيلة والسلطة ذات العصبية الأسرية والاجتماعية الطاغية على مكونات المجتمع دون رغبته، وهذه السلطة التي تحاول أن تبدو على هيأة سلطة سياسية للدولة إنما هي سلطة تشبه ما هو موجود في فلسطين حيث تبرز السلطة في ظل غياب الدولة ناقصة الشروط التي لم تستكمل تشكلها بعد على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي.
إن التزاوج بين القبيلة والسلطة جعلنا في الحالة اليمنية لا ننتقل إلى الدولة حيث المواطنة وسيادة القانون، ويظل الانتماء إلى القبيلة والمنطقة والقرابة أكثر من الانتماء إلى مكون سياسي آخر، ويتجلى التسليم بأعراف القبيلة أكبر من التسليم بقوانين وتشريعات الدولة، إن القبيلة تعيش تحت حماية نفسها. ويبرز هذا الاستقلال الاجتماعي والرضوخ إليه بوضوح تام قبول السلطة بالتفاوض مع الخاطفين القبليين والتعهد بعدم ملاحقتهم قضائيا، والقبول بالتفاوض هو إقرار من السلطة بثنائية الكيان: السلطة - القبيلة. وهذا الاعتراف الضمني أدى إلى التعاون الندي بالحفاظ كل على الآخر، فالقبيلة تجد حريتها في ظل سلطة تهيمن على المجتمع المتحول إلى الحالة المدنية في المدن واليمن الأسفل، بينما لا تملك القدرة ذاتها في صعدة ومأرب والجوف وشبوة والضالع وذمار وعمران حيث يبرز المعطى القبلي ككيان مواز للسلطة وندٍّ لها.
إن السلطة في الحالة اليمنية هي سلطة متعددة الوجوه، فهي سلطة قبلية للقبائل وتقر بأعرافها ولا تخضعها لتشريعات دولة تدعيها، وهذه العلاقة الخاصة هي التي خلقت ظاهرة الفوضى، ومن ناحية أخرى نجدها سلطة سياسية للمجتمع المدني حيث تقر له تشريعات مدنية وتحاول إخضاعه لها بصرامة، فالمختطفين للسواح في أبين خضعوا للمحاكمة بينما خاطفون قبليون منحوا فدية من قبل السلطة والتزام منها بإسقاط الملاحقة القضائية، والقبيلة بدأت تتشكل على نوعين: الأول خارج عن حماية السلطة وخاضع لإقصائها، وقبائل موالية تحظى بدعم السلطة وغض الطرف عن انتهاكاتها لأمن وسلامة المجتمع مثل الخطف والقتل والبسط والتقطع والنهب، السلطة لا ترتاح للقبيلة كونها تقف عائقاً أمام مد نفوذها على نطاقها القبلي مع بروز شخصيات وقبائل لا يرتاحون إلى عدالة السلطة، ولكن العلاقة بين الاثنين قائمة لأن السلطة ترى في القبيلة مرجعاً اجتماعياً لقوتها والقبيلة ترى في السلطة الفاسدة مؤسسة ساندة وداعمة لتمرد القبيلة على الدولة التي لم تتكون بعد، فالقبيلة لا تطمئن للسلطة لأنها لم تحقق لها تنمية حقيقية تساعدها على التحول إلى مجتمع مدني عادل لا يضطر أفرادها لاستعمال السلاح بنزع الحقوق أو حمايتها أوردها، ولكن الفريقين يمثلان أحد أركان مجتمع اليمن الأصيل حيث كل طرف يفعل ما يشاء ولا يرى عيباً فيما يفعل ولو كان ذلك الفعل مشينا في نظر المجتمع والقانون وتشريعات الدولة.
لقد أفرزت التطورات السياسية التي تلت ما يسمى ثورة التغيير 2011م (الربيع العربي) الكثير من المتناقضات وكشفت عن العديد من العوامل التي تقف وراء الكثير من مشكلات اليمن والتي تبرز أهم معضلاتها في التحالف القائم بين القبيلة والدولة وتنازل الدولة عن بعض وظائفها لصالح شيوخ القبائل لتصبح القبيلة تمارس مهام الدولة ومؤسساتها فيما نجد الدولة في كثير من الحالات تضطلع بدور القبيلة كما هو الحاصل في تعاملها تجاه من يقومون بالاعتداء على أبراج الكهرباء وتفجير أنابيب النفط والغاز وقطع الطرقات، فبدلاً من أن تقوم بتطبيق القوانين على هؤلاء المخربين فهي تلجأ إلى استخدام الأعراف القبلية وإرسال الوسطاء القبليين لإقناع أولئك المخربين ومحاولات استرضائهم لتظهر ضعيفة ومسلوبة وخاضعة للابتزاز وغير قادرة على فرض سيادة النظام والقانون ومثل هذه الحالة هي من تتكرر حين ما تنأى الدولة بنفسها عن التدخل في النزاعاتبين القبائل الأمر الذي يمثل مظهراً من مظاهر ضعف الدولة.
والمؤسف حقاً أنه ما زالت في اليمن معاناة من أشكال مختلفة من المعاندة والمكابرة والمكايدة ففريق يصر على أن الأسلاف والأعراف القبلية هي من أنهت خصومات السياسة وعن طريقها حلت أخطاء رجال الأمن وزلات المؤسسة العسكرية وأنه ولولا بنادق التحكيم القبلي التي احتوت خلافات المتخاصمين والمتصارعين والمتشاكسين لاشتعلت كل يوم حرب في اليمن وفتن لا يمكن الخروج منها إلا بحمامات الدم خاصة خلافات الحكم والسياسة وفريق آخر يمعن في تقمص النقيض ليثبت شجاعاته أو ليكسب تأييداً عارضاً داخل حزبه وهو يتحدث عن منطلقات وآفاق ومعالم وحدود مشروع الدولة المدنية الحديثة فيما هو بالحقيقة يطوع حزبه لمصالحه ومصالح القبيلة التي ينتمي إليها.. ولذلك فلا الحزبية نجحت ولا القبيلة اندمجت مع مفاهيم العصر ولا اقتنع طرفا الصراع في أن الحل هو في بناء مشروع دولة تقوم على المواطنة المتساوية والعيش المشترك الذي يحافظ على حياة الإنسان وكرامته.
تجربة الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي الذي قاد مشروعاً في سبعينات القرن الماضي حاول فيه تخفيف نفوذ القبائل في الدولة وتقوية السلطة المركزية وخاض واحدة من أندر وأهم محطات الصراع السياسي بين القبيلة والدولة انتهت باغتياله لتعود بعد ذلك صيغة التعايش بين القبيلة والدولة بشروط القبيلة ومصالحها.
القوى الاجتماعية التقليدية لعبت دوراً كبيراً في صنع الأحداث السياسية في اليمن خلال الحقب التاريخية المختلفة ففي الشمال على سبيل المثال ساهمت تلك القوى في تنفيذ انقلاب 1948م وانقلاب 1955م فضلاً عن دورها الأساسي في ثورة 26 سبتمبر لعام 1962م ثم مشاركتها الأساسية في مؤتمر خمر وكذلك عمران الذي أسس فعلياً للجمهورية العربية اليمنية، بينما الثورة في عدن قامت بها قوى مدنية مؤمنة بالفكر القومي التحرري المناهض للاستعمار الأجنبي في المنطقة كما أن هذه القوى كانت تتنازع مع رابطة الجنوب العربي حول الاستقلال الذي حصل في 30 نوفمبر 1967م.
إن إشاعة مظاهر الاستبداد داخل المجتمع كنتيجة لتأثير القبيلة سياسياً أو اجتماعياً يؤدي لا محالة حتى في الأحداث العظيمة إلى تبدل الوجوه لا تبدل المؤسسات الأمر الذي نرتب عليه جمود مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية طوال المرحلة السابقة فلابد من تقليص تأثير القبيلة على كيان الدولة والمجتمع حتى تتمكن من بناء مؤسسات جديدة في مختلف مجالات الحياة بهدف أحداث حراك حقيقي في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية.
ختاماً.. الحالة اليمنية الفريدة في الجزيرة العربية تذهب بنا إلى تجارب الدول المجاورة لليمن فكل الدول التي تشترك في جغرافية الجزيرة العربية نجحت في جعل القبيلة جزء من الدولة، حافظت القبائل في كل دول الجزيرة العربية على طبائعها وتقاليدها وانخرطت في عملية البناء المؤسسي لهذه الدول، وهذه نتيجة قرار هذه الدول في البنية التحتية للإنسان من خلال التعليم والصحة كعوامل رئيسية في المواطنة التي تعتمد على الشعور بالانتماء بدلاً من الانتماء نحو القبيلة والعشيرة والمنطقة، فشل اليمن لا تبرره كل المسوغات التي تسوقها النخبة السياسية التي ما تزال تعيش صراعاتها في التزاوج بين القبيلة والدولة برغم حصاد السنين الطويلة.