حين يحضر السؤال حول الأفق السياسي للحالة الجنوبية، وما ثمن الصبر والتضحيات، ومن أي شاشة يأتي الاستقلال، وفي أي مشهد يطل فك الارتباط؟ لا أحد يجيب بغير الدندنة على نغمات اللحن الخالد "التحرير والاستقلال ...الخ" دونما كيف، فتلك ال"كيف" هي تأتأة الجنوب الأزلية ورمزية احتباس الفضاءات الفكرية.
خط التماس ليس مستقيم وثابت بل هو شديد الانحناءات والالتواءات و"العرجنات" وتختلط عنده دالّات ودلالات كثيرة وتظهر وتختفي حقائق مغلفة بتعبيرات و"تصبيرات" وحماقات وسذاجات.
الشرعية وظيفة هرب بها أصحابها من صنعاء إلى عدن ثم الرياض والعودة، في خط دائري ينتهي في أحسن الأحوال حيث بدأ، أي في صنعاء، ولا يملكون أي حرف إضافي لما يرددونه حول الخلاصة السياسية للحرب والمتمثلة بعودة مؤسسات الدولة وهضم مخللات الحوار، التي حمضت وتحللت أنسجتها، والصلاة على النبي إلى آخر الموال. وكل الفقاعات التي يرمونها في الهواء حول الجنوب ويستقبلها المتلهفون بطبول ومزامير الموالد، هي ليست سوى فقاعات تخرج من أفواههم ممتلئة بثاني أكسيد الكاربون.
المقاومة الجنوبية كان لها شرف تحرير الجنوب بمشاركة قوى أخرى تحمل رؤى وأهداف مختلفة لكن الجنوب كان اللون الغالب في الساحات ومن أجله تحمّل الجميع كل تلك التضحيات.
الآن هناك أمور أعقد من مجريات الحرب لأن الحرب كانت مواجهة ميدانية مباشرة، بجهود متضامنة واصطفافات واسعة وبإسناد "دول التحالف" وكانت امتحان للقدرة على الصمود والتضحية، أما الآن فهناك ميادين كثيرة تتجاوز برطمة القادة وشعبوية الحراك وانفلات النخب، مثل:
-تأمين الجنوب من أقصاه الى أقصاه ومبتدأه حضرموت،
-إنشاء تحالفات بين كل القوى التي تعمل على استعادة دولة الجنوب،
-تفعيل نخبة من المفكرين لوضع برنامج سياسي حقيقي يحمل أفق استعادة الدولة.
تلك المسائل تتطلب اخلاق أولاً وعقول ثانياً، وجهود متكاملة ثالثاً وعاشراً.
لا أحد يدرك إن كانت هناك جهود "مكولسة" تسير على إيقاعات الطُرشان، أم أن الامور تتشكل بالبركة، ليؤكد الجنوب لنفسه مراراً بأنه دار حراك جماهيري وليس دار سياسة وريادة.. والمخيف أن التاريخ يشهد بأن ساسة الجنوب في كل المراحل كانوا في أحسن الأحوال محاربين صناديد تحولوا إلى حراس قلاع من الوهم، ثم أصبح من طال به الزمن نوعاً من "الزومبيات"، وهكذا فليس للجنوب بعد الاستقلال أي تراث في الثقافة السياسية أو قواعد للسلوك البراجماتي واستثمار القدرات.
هناك إضافتان خلفهما "ربع قرن" الوحدة تتمثلا في الاحتقان العظيم داخل النفوس وهو الذي كان دافعاً للصمود الجنوبي الأسطوري، يقابله مع الأسف احتقان في الضمائر تراكم في تطبيقات التربية الوطنية لبيئة دولة الوحدة، التي خلفت مجاعات سيكلوجية لا تنتهي وتدفع بالفرد ليكون مركز كل شيء في المصالح والأضواء والزعامات. التفاؤل جميل حين يكون هناك جسد حي يعمل في الليل والنهار لكن حين يكون هناك ركود سياسي فلا بد أن يعالج الضمور بالوخز المؤلم جداً ليصحو قبل أن تظهر أعراض ستيفن هوكنغ (مع الاحترام لعبقرية الرجل).
الجنوب لن يعود غداً أو بعد غد وعودته مرهونة بقدرات ابنائه في خلق الضرورات وفي بناء الأمر الواقع المتين والذي لن يتحقق إلا وفق أولويات واعية. واليمن بالنسبة لدول الخليج هي الورقة الأخيرة بعد تدخل روسيا في الشام وربما لاحقاً في العراق، ولا خيار لديها سوى الانتصار الكامل والنهائي دون مساومات سياسية، ومعها تصبح المسألة الجنوبية بمعانيها واحدة من أهم التحديات "المحرجة" أمام تلك الدول، ولهذا فإن إخراجاتها بطريقة يقبلها الداخل والخارج ليست من مهام التحالف، بل من مهام ابناء الجنوب بأطيافهم.