حكومة شرعية للفساد الخالص

2016-07-09 07:28

 

بعد مرور عام على تحرير عدن من قوات ومليشيات الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح تمر المدينة بأوضاع حرجة للغاية على كافة المستويات الأمنية والسياسيّة والخدميّة.

 

الحكومة الشرعية التي اُجبرت على العودة إلى العاصمة المؤقتة عدن قبل شهر من الآن وقيل أنها ستُساهم في تحسين الأوضاع والخدمات وتُعالج الإشكاليات، زادت الأمور سوءاً والتباساً وتعقيداً، وأكثر ما فعلته لحد الآن يتلخص في إسناد المتنفذين الذين كان لهم دور رئيسي في تردي الخدمات، امدادات الطاقة على وجه الخصوص، عن طريق تجديد عقود توريد المشتقات النفطية لهم، بما يُعيد احتكارهم لتوزيعها، وبشكلٍ كلي ومهين، وكما جرى في الأيام الماضية.

 

في مطلع شهر أبريل الماضي صدر القرار الجمهوري بتنصيب أحمد عبيد بن دغر رئيساً للوزراء بدلاً عن خالد محفوظ بحاح. وعلى الرغم من أن مثل هذا التعيين يُخالف تماماً المرجعيات الدستوريّة، وكما أشرنا في مقالٍ سابقٍ، إلا إن الملاحظة الطريفة والملفتة في القرار الجمهوري هي تلك المسوغات التي زُعِم بأنها كانت مبرراً وجيهاً للتغيير: "الإخفاق الذي رافق أداء الحكومة خلال الفترة الماضية، تعثر الأداء الحكومي في تخفيف معاناة أبناء شعبنا، وحلحلة مشكلاته وتوفير احتياجاته" بحسب ما جاء في نص القرار.

 

مقارنة مع النتائج العمليّة الملموسة تبدو الأمور في واقع الأمر تجري على النقيض تماماً مما تقوله مضامين القرارات والخطابات الرسمية التي تلجأ إلى التلاعب بالألفاظ كاستراتيجية أثيرة لإخفاء حقيقة غاياتها.

لقد حاول رئيس الوزراء المُقال (بحاح) أن يُحجِّم قليلاً من فساد المتنفذين لكنه اصطدم بجيوشهم الجرارة، سياسياً واعلامياً، فَنُبِذ قصياً تلاحقه لعناتهم، ليتم استدعاء بن دغر، رفيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح الحميم، و"الفاسد السوبّر".

 

قبل عدّة سنوات وصف روبرت بوروس الخبير المختص في الشئون اليمنية النظام السياسي في اليمن بأنه حكم اللصوص للصوص من أجل اللصوص.. حكم الناس الذي يأخذون (يختلسون) فلوساً من الدولة أثناء مرورها من تحت أيديهم!

 

على ضوء الروابط اللصوصيّة الوثيقة، وبأخذ كل المعطيات في الاعتبار، يمكننا الآن، وبكل طمأنينة، إعادة صياغة مسوغات القرار الجمهوري على نحوٍ جيد لتتوافق مع النتائج العملية، وليتسنى لنا تخليصها من تناقضاتها المضنية، فتستقر على حقيقتها الناصعة: " رفع مستوى منسوب الفساد الحكومي، وتخفيف معاناة المتنفذين واللصوص، وحلحلة مشكلاتهم، وتوفير كامل احتياجاتهم".

 

وتعاقباً للمهازل الشرعيّة بادر رئيس الوزراء الحالي بن دغر قبل بضعة أيامٍ إلى نشر بيان حاول فيه توضيح موقف الحكومة من الأوضاع عامة، والأوضاع الخدمية المترديّة على وجه الخصوص، ومِما جاء في فقرته الافتتاحيّة "تؤكد الحكومة أنها معنية بالأوضاع في عدن، أمنياً وخدمياً وخاصة في مجال الكهرباء، إلا إنها لا تتحمل مسؤولية كاملة عما لحق بالبلاد من دمار صنعته سنوات طويلة من سوء الإدارة، وفساد السياسات الاقتصادية التي ألحقت أضراراً كبيرة بالبنى التحتية".

 

يُحاول هنا بن دغر التملص من تحمل أي مسئوليّة تجاه الأوضاع القائمة، فتارة يلقي باللوم كاملاً على دمار السنوات السابقة، وتارة على الحرب الأخيرة. ومع إقرارنا بواقعية ووجاهة مثل هذه الأسباب، إلا أن بن دغر ليس هو الشخص المفترض به قول مثل ذلك. ففي السنوات السابقة كان شخصية رسمية بارزة في النظام السياسي حتى وإن بدا بلا تأثير حقيقي في القرار المُحتكر من قِبل صالح عدا عن تلك الصور التي ظهر فيها هامساً في إذن الأخير وابتسامة فاحشة تنط عن شفتيهما على وقع الهمس، وبأي حال من الأحوال لن يُسقط ذلك عنه المسئولية في مهمة ارتضاها لنفسه دون اضطرار.

 

لكن يبدو أننا نسيناً أمراً مهماً، لقد هاجر بن دغر من دار صالح في صنعاء إلى دار هادي في الرياض، وإن كانت هجرة متأخرة جداً، ومع ذلك يبدو أنها ستَجُبُ كل ما قبلها، لتخرج بن دغر جديداً كما ولدته أمه، وكل ما عليه فعله الآن هو ممارسة قليل من الفساد والنصب والاختلاس بحق التاريخ والذكريات واللغة، ولا عجب فالعادة هي ملكة البشر كما قال المؤرخ اليوناني هيرودتس!

 

في البيان قرر رئيس الوزراء أن يُلخص أقصى مسئولية لحكومته بعبارة " معنيّة بالأوضاع في عدن". قد يكون من غير المألوف صدور مثل هذه العبارة (الطارفة) من شخص مسئول مسئوليّة مباشرة، ربما قد تصدر على سبيل المجاملة والتضامن من سفير دولة قصية كجواتيمالا مثلاً أكثر ما يربطه باليمن قد لا يتعدى بضع حقائب نسيها في مخزن السفارة. يمكن تفهم الأمر على هذا النحو الدبلوماسي العابر، لكن ما الذي يجعل رئيس الوزراء يتصور مسئوليته بهذه الطريقة؟ أتراه يُخايل مهمته ودوره وحضوره كدبلوماسي طارئ على البلد، دبلوماسي يعيش في غربة كليّة؟!