عندما أطلق الشاعر الحضرمي سالم بايعشوت من مهجره الأندونيسي في مدينة شيريبون:
"ما لجاوة بدل ذلا المكاتيب يا أحمد
تسمع إلا البقش تمطر وتصهل وتعتد
والسرج راشنة في كل بقعه توقّد
والطرش والروش والعيش بارد مبّرد"
"البقش: النقود، راشنة: مضيئة، الطرش: الضيوف، الروش: العطر"
فعارضه الشعيرة المهاجر أيضاً مدافعاً عن حضرموت ومشيداً بأجود أنواع تمورها الهجر والمديني قائلاً:
"تنكر أرضك بدل ما تشكر أرضك وتحمد
ما تفنّد لنا الحب النزه ما تفنّد
لو معي علم بكتب لك ثنعشر مجلّد
في التمر والهجر والا المديني مردد"
"الحب النزه: القمح النقي"
يدون الرحالة والمستشرق الأسكتلندي روبرت سارجنت "1915- 1993" هذه النقائض الشعرية عندما زار حضرموت بين عامي 1947-1948 حيث أصدر مجلداً احتوى على دراسة ومختارات أدبية لنصوص من الشعر، والمقامة كذلك الفنون الأدائية في حضرموت عند البادية كالغودرة "أداء الجمالة"، والرقصات المتعددة كالمركيوز والدحيفة والظاهري والقصبة والشرح والشبواني والرزيح، وفن الدان "فن جماعي ارتجالي"، وفنون بني مغراه "صيد الوعل"، والزامل "المفاخرات البدوية في الحروب والأعراس"، وتقابلها المراجيز عند الحضر.
ويضيف إلى الفنون الأدائية أناشيد المولد وليالي رمضان وفنون العمل المتعلقة بارتواء الحقول من السيول وتلقيح النخل والسناوة "يعادل السواني" والنخالة "فرز الحبوب"، وهناك أناشيد لأولاد المدارس، والخيبعان "فنون نسائية".
ومما يلفت إشارة سارجنت إلى الأغاني الحضرية التي وصفها بأنها تغنى بالعود والكمنجة حيث أشار إلى بواكير التسجيلات عبر الأسطوانات وتسويقها في سوق عدن، فهو يشير إلى أولى الشركات بارلوفون–ألمانيا في أوائل الثلاثينيات غير أن في أواخرها ظهرت تسجيلات أوديون منذ عام 1938 ثم لحقتها أسطوانات محلية باسم جعفر فون انتقلت طباعتها في بريطانيا، والشركة الثانية التاج العدني التي انطلق تسويقها عبر البحرين عن طريق طباعتها في العراق.
لكن مما يشير إليه ويرتبط بالهجرات اليمنية إلى الهند وأندونيسيا "جاوة تحديداً" هو أن هذه الأسطوانات المسجلة لأغان حضرمية وثقت لحظة تاريخية يتجاهلها مؤرخو الغناء اليمني بأنواعه "الصنعاني واللحجي والحضرمي واليافعي" بأن من المصادر المندمجة فنون من أصول مختلفة سواء من آسيا "الأثر التركي والجاوي والهندي" أو أفريقيا "الأثر الأثيوبي والصومالي" تشكل تلك الذائقة الثقافية في اليمن.
فيذكر سارجنت بأن شركة أوديون سجلت للمغني محمد البار من سكان القرين بدوعن مع فرقة سورابايا في أندونيسيا حيث شكلت أكثر من فرقة بعضها من يمنيين وجاويين يشتركون في اختبار مرجعياتهم الثقافية سوياً.
فهي فن حضرمي ممتزج بالفن الجاوي باعتباره تجربة مشتركة لا شك أنها انتقلت مع من عاد من هجرته أو استعاد أثر الحضرميين في جاوة عبر الأسطوانات حيث تسربت تلك الألحان إما بتركيب نصوص جديدة عليها وإما بترسم صياغتها اللحنية في أغنيات لاحقة.
وهو يمثل ما فعله أبناء يافع الذين عادوا من حيدر آباد حاملين معهم من بين ما حملوه من التراث المعنوي الهندي كالألبسة والأطعمة كذلك الأغاني الهندية مثلما يفعل أبناء حضرموت العائدين من جاوة حين يحضرون أغاني أندونيسية في أسطوانات معهم.
فإذا عرفنا أن الشاعر سالم بايعشوت ومثيليه علي باغريب والشعيرة "عبدالقادر بن عمر بن مبارك" ممن هاجروا إلى جاوة وسورابايا فإن هناك الشاعر أبو معجب يحيى عمر يافعي عرف بأنه هاجر إلى حيدر آباد، وتنقل بين كلكتا ومدراس ثم استقر في بارودا حيث الحي العربي وأتقن اللغة الأوردية المتسربة كلماتها إلى معجمه الشعري كما أنها أفادت نصوص شعره أن تخرج من إطارها الحضرمي حيث تنقلت نصوصه بين حناجر مغني الجزيرة العربية سواء في الخليج العربي أو الحجاز. كذلك شاعر آخر مغمور لكنه ترسم طريقة يحيى عمر الشعرية وهو عمر حسين زايد.
وقد شجعت نصوص الشاعرين اليافعيين بأن تنقل الألحان الهندية إلى اليمن وتسجل عبر شركة التاج العدني، فإن هذا التعدد الثقافي الذي تقذف به السواحل يسقط وهم الأصول ونقاء الجذور، فالرحالة سارجنت يرصد في زيارته تلك إلى مينا بلحاف أن شاهد لوحة من اندماج ثقافات السواحل في حفلة سمر من البحارة حين تحلَّق مجموعة من الرجال الحضارم والعمانيين والصوماليين، وتوسطهم المغني التميمي من إحدى القرى المجاورة لتريم، وقد صدح بالغناء المصري والعماني والحضرمي والهندي والجاوي..
إن مدن السواحل لتكشف بأنها محطات دائمة لحالات الانطلاق والاستقبال والمرور للتراث المعنوي والمادي.. ثقافات تكشف عن جذور متعددة تكرس من الهجين الثقافي..
*- أحمد الواصل – جريدة الرياض