رحلة في عقل أديب وناقد حضرميّ (د. طه حسين الحضرميّ) ‘‘الحلقة الثانية‘‘
بقلم : علي سالمين العوبثاني
للذكريات مكان في قلوب الكتاب عندما كانوا تلاميذ في مقاعد الدرس ، وهناك لحظات نستدعيها كلما أردنا العودة لسنوات مازالت عالقة في تلافيف الذاكرة ولا يمكن أن تنسى مهما زادت الحياة من تعقيداتها .. وفي هذه الحلقة سنحاول الإبحار في عقل الدكتور طه حسين الحضرمي .. ليذكر لنا بعضا من هذه الشذرات العطرة في حياته :
وسؤالنا له هو كالآتي :
*في حياة كل تلميذ أساتذة أثروا في شخصيته ، حباً كان أو كرها للمواد المتلقاة منهم ، وتاريخه على مقاعد الدراسة لا يخلو من طرفة أو حكايات ، حين يتذكرها الآن يجد فيها عزاء في ما آل اليه حاله .. من هم الأساتذة الذين أثروا فيك سلبا كان إم إيجابا ؟ وماهي الحكايات الطرائف التي ما زالت محفوظة في الذاكرة ؟
(ج) يسعدني في مستهل هذا اللقاء أن أرحب بك أخي علي بوصفك صديقا وأخا جمعت بيننا في زاهر الأزمان لقاءات بديعة مثمرة في مائدة الثقافة الشهية؛ متلمسين في دروبنا المتسعة أطايب الكلم؛ مبتهجين بالتنزه في عقول الرجال على مر الأزمنة وتنوع الأمكنة. شاكرا لك حسن الظن بالعبد الفقير إلى الله.ولكني أخشى أن يُفاجأ القراء ببضاعة مزجاة، فأكون وإياهم كالمعيدي مع مَنْ سمع به ثم رآه، فكان خيرا له ألا يراه أو يسمع لقوله.
أقول هذا وأنا أتصفح أسئلتك ذات المسالك المتشعبة، ولكن لا بأس من خوض هذه المغامرة بالغوص في لججها الشبيهة بليل امرىء القيس اللامتناهي.
الحديث عن أساتذتي يطول؛ لأنه ممتدّ منذ أن وقعت عيناي على توهجات الحروف فبدأت في فك طلاسمها على يد والدي المعلم الأول في حياتي حفظه الله ومتّعه بالصحة والعافية؛ فقد مهّد لي السبيل إلى العلم والتعلّم وظل يوصيني بهما دوما، ثم أصبحتُ فيما بعد تلميذا رسميا من تلاميذه في مادتي (اللغة العربية والجغرافيا) في الصف الأول الإعدادي بإعدادية أكتوبر في ديس المكلا مع جملة طلابه في تلك المرحلة، وما زلت أتتلمذ على يديه حتى يومنا هذا علما وخلقا وسلوكا.ثم كانت مرحلة (المعلامة) قبل الولوج إلى التعليم الرسمي وفي أثنائه وذلك على يد مُعلمَيْن أكنّ لهما كلَّ الحب والمودة هما الأستاذ عبداللاه عمر مبارك بامطرف متعه الله بالصحة والعافية الذي تتلمذت عليه في كُتّابه بالمنقد والشيخ عمر باقمري إمام مسجد باعبود الأسبق في كُتّابه الواقع في بيته آنذاك بجوار مسجد باعبود جازاهما الله عني خير الجزاء وقد تحملا مشاغباتي الطفولية مع زملائي الآخرين بصدر رحب، فأتقنت على يديهما حفظ بعض سور القرآن الكريم ولاسيما المفصّل منها ومبادىء القراءة والكتابة من خلال القاعدة البغدادية وبعض أساسيات علم الحساب.
أما أساتذتي في التعليم النظامي (الرسمي) فأكنّ لهم جميعا المودة والاحترام ممن كان حبيبا إلى قلوبنا أو كان قاسيا في تعامله معنا؛ فكل منهم كان يبتغي الخير لنا؛ بيد أن هناك نجوما منهم تشعّ في سمائي في كل مراحل تعليمي.
ففي المرحلة الابتدائية كان للأستاذ المحبوب (سعيد محمد بن شبأ) رحمه الله تعالى الذي تعلمت على يديه مادة الحساب ولاسيما (جدول الضرب) الذي أتقنته على يديه بسبب فعل الضرب الذي كان ملازما للمادة آنذاك؛ وذلك في ابتدائية (الشهداء) بالشرج.ثم كان لقائي بالأستاذ (عباس عيدروس) من أبناء عدن؛ وأنا بالصف الخامس الابتدائي في مدينة (نصاب) بشبوة، وقد تعلمت منه أسرار فن (الرسم) الذي ظللت مغرما به حتى يومنا هذا؛ متذوقا لأفانينه ومدارسه المتعددة، كما أنني مارست (فن الرسم) فعليا في مرحلة من مراحل حياتي، فقد شاركت بلوحتين بالألوان الزيتية في المعرض الفني الذي أقيم في القصر (قصر السلطان القعيطي بالمكلا سابقا) متزامنا مع مهرجان معرض المعارض في عموم الجمهورية آنذاك عام 1977م بمعية صديقي المهندس صالح طالب الكثيري وبتشجيع من الأستاذ الفنان التشكيلي (حسن بخيت) متعه الله بالصحة والعافية. ثم كان للأستاذين سعيد بن جدنان رحمه الله تعالى وعبدالقادر بصعر متعه الله بالصحة والعافية تأثير كبير في شخصيتي في الصف السادس الابتدائي بمدرسة (الجماهير)، أما الأستاذ بن جدنان فقد حبب إليّ مادة الأحياء من خلال أسلوبه المتميّز وقد صاحبته بمعية هذه المادة في أولى إعدادي، أما الأستاذ بصعر فقد عشقت مادة (اللغة العربية) من خلال تدريسها لنا بأسلوبه المتميز.
أما المرحلة الإعدادية فقد كان لشخصية الأستاذ (فيصل بن ثعلب) في إعدادية (جيل الثورة) تأثير كبير في مسيرتي المهنية فيما بعد؛ من خلال طريقة تدريسه مادة (اللغة الإنجليزية) وطرافته وتعليقاته السريعة (قفشاته) التي أفدت منها فيما بعد في مهنة التدريس.وقد أصبح هذا الأستاذ صديقا لنا لاحقا (في مرحلة الثانوية) نتلقى منه النصح والإرشاد ونتجاذب معه أطراف الأحاديث الجادة فقد كانت لنا جلسة بمعيته في مشرب (عبد أحمد) بسوق اللخم في الشرج مع جملة من أصدقائي آنذاك، فظللت على تواصل دائم به بعد ذلك حتى غابت عني أخباره، فانا أتذكره وأدعو له بظهر الغيب؛ وربنا يمتعه بالصحة والعافية أينما كان.وأذكر هاهنا الأستاذين المتميزين صالح بن حميد الذي تعلمنا على يديه مادة (اللغة العربية) بأسلوب يكاد يكون فريدا ولاسيما عند انفعالاته في درس النصوص وما زال صوته يطن في أذنيّ وهو يشرح لنا قصيدة (حياة مشقات) للشاعر المهجري إلياس فرحات التي منها هذان البيتان:
أغرّب خلف الرزق وهْو مشرّق وأقسمُ لو شرّقتُ كان ليغربُ
حياةٌ مشقاتٌ ولكنْ لبُعْدِها عنِ الذُلِّ تصفو للأبيِّ وتَعْذبُ
والأستاذ (محمد عوض الجعيدي) في مادة التاريخ الذي أبهرنا بأسلوبه التعليمي المتميّز ونقله التاريخ إلينا بأسلوب سردي ماتع شائق.
أما في المرحلة الثانوية فقد اتسعت آفاقنا بفضل الاطلاع على كل مجالات المعرفة المتاحة بين أيدينا حينئذ ولاسيما وعاء المعرفة النابض بالحياة آنذاك (المكتبة الشعبية) سابقا و(السلطانية) في وقتنا الحالي.وبفضل توجيهات أساتذتنا ( الأستاذ عبداللاه هاشم والأستاذ عبدالله سرور –رحمه الله- والأستاذ محمد بن همام والأستاذ سالم با خليعة والشيخ أحمد بن طاهر-رحمه الله- والأستاذ أبوبكر الصافي ود/ صالح العمودي ود/ناجي الكثيري، ود/صالح قمزاوي، والأستاذ صلاح باحاتم، والأستاذ أحمد فرج بامطرف والأستاذ سالم با مدهاف والأستاذ المصري أمين قطايف والأستاذين الفلسطينيين عاهد إسماعيل وسعيد أبو غلوة وغيرهم) ممن تركوا أثرا فاعلا في حياتنا ولاسيما الأستاذ أبوبكر الصافي والأستاذ عاهد إسماعيل –رحمه الله- فقد أثّرا في شخصيتي تأثيرا قويا علما وخُلقا وسلوكا جازى الله الجميع عنا خير الجزاء.
أما في المرحلة الجامعية فيشكّل الشيخ العلامة السيد عبدالله بن محفوظ الحداد -رحمه الله --علامة فارقة في مسيرة حياتي فقد أخذت النحو العربي منه غضا طريا وألان لنا جوانبه المستعصية وحببه إلينا من خلال أسلوبه المتميّز وقد كان ينشر بيننا دعاباته الهادفة حتى يكسر حدّة المادة، ويأتي بعده في التأثير أستاذي الدكتور عبدالله صالح بابعير -حفظه الله ورعاه-الذي تلقيت منه مادة النحو في المستوى الرابع ومازلت أستقي من معينه الذي لا ينضب حتى يومنا هذا، ثم قرأت عليه بعد المرحلة الجامعية أبوابا من الكتب الآتية : الكتاب لسيبويه، الخصائص لابن جني، ضرائر الشعر لابن عصفور الإشبيلي –إن لم تخني الذاكرة وكثيرا ما تفعل-، ارتشاف الضَرَب لأبي حيّان النحوي. ومن الغرائب أن علاقتي بالدكتور بابعير بدأت زمالةً فصداقةً ثم أخوةً ثم تتلمذت عليه فيما بعد فاستمرت هذه الصفات متداخلةً لا تغلب صفة على أخرى. وقد تعلمت منه منذ عهد بعيد الإصرارَ والصبرَ على مجالدة العلم وأفدت من ملاحظاته اللغوية السديدة كثيرا وما زلت. كما أفدت كثيرا من أساتذتي الدكتور عبدالعزيز الصيغ الذي حبب إلينا شعر المتنبي والأستاذ عمر محفوظ باني والأستاذ حسين باسنبل جازاهم الله عني خير الجزاء.
أما علاقتي بالدكتور عبدالله حسين البار حفظه الله ورعاه فتتخذ منحى آخر، فلم أتلق العلم منه في مقاعد الدرس ولكن من خلال اللقاءات والجلسات التي بدأت من مستهل ثمانينيات القرن العشرين على شكل ملحوظات يسيرة على قصصي القصيرة التي كنتُ أستشيره فيها قبل نشرها، ثم بدأت هذه الملحوظات اليسيرة تتحول مع الأيام إلى نصائح وتوجيهات في القراءة والاطلاع وتفجير الطاقات الساكنة في داخلي ولاسيما في مجال الدرس الأدبي والنقد الروائي فكان له فيما بعد فضل اقتراح عنوان رسالتي للماجستير (المنظور الروائي في روايات علي أحمد باكثير) ليصبح مشرفا رسميا عليها؛ بيد أن هذا الإشراف لم يستمر رسميا بسبب بعض العوائق الإدارية، ليتم تغيير الإشراف –جراء ذلك- فأسند رسميا إلى الدكتور صبري مسلم حمادي حفظه الله ورعاه.ولكن صلتي لم تنقطع بأستاذي البار فقد ظل يتعهدني طوال مدة إنجاز الرسالة ولم يكن لي شرف حضوره مناقشتي العلنية.وفي إطار هذا السياق دعني أنقل إليك نصَّ شكري إياه في مقدمة رسالتي للماجستير (كما كان لشيخي الفاضل وأستاذي الكريم الدكتور عبد الله حسين البار فضلٌ عظيمٌ تعجز الكلمات عن الإفضاء به، فقد تعهّدني منذ أمد بعيد بالرعاية والتشجيع وأدناني من مجلسه، فبصّرني بقضايا المنهج البنيوي بصبر المعلم وحدب الصديق، فكشف لي عن معمياته وأزال عني غشاوة التفكير الذري في النقد، كما كان له فضل اقتراح عنوان هذه الرسالة، فله مني كل الشكر والتقدير،فجزاه الله خير ما يجزي به عباده الصالحين العالمين.) وهذا ما أقوله اليوم وغدا : إن الكلمات تعجز عن الإفضاء بمكنون قلبي تجاه أستاذي وشيخي الجليل الدكتور عبدالله حسين البار إذ غدوتُ منه بمنزلة المريد من شيخه.
سنتابع في الحلقة الثالثة حديث من نوع آخر مع الدكتور طه حسين الحضرمي حيث سينقلنا إلى عالمه النقدي بإسلوبه الجميل .. إنتظرونا .
*- للاطلاع على الحلقة الأولى : اضغـــــــــط هنـــــا