تقدَّم العالم الغربي بثبات في قرون ماضية نحو التنوير كحراك شامل، سياسي ثقافي فلسفي وفني، من منطلق أن العقل البشري ليس وعاء للخرافة والظلام، وليس مسيج فقط بالضرورات الإيمانية أو التبعية المطلقة للسلطات الدنيوية والدينية، ولكنة معمل هائل متحرر لإنتاج العلوم والمعارف، وبهذا انتقلت وظيفة العقل من التأمل المجرد إلى التجربة، واستطاع أن يكتشف قوانين الطبيعة وأن يضع قوانين التطور الاجتماعي وذهب ينتقل عبر الزمن بخطى متواترة نحو التفوق اللامحدود في مجالات العلوم والمعارف والتقنيات الهائلة المختلفة.
وفي مشهد مضاد يتخلف العرب عن حاضرهم وتحدياته، متجهين بانفتاح نحو فضاءات القرون الماضية، مستلهمين بصورة لا إرادية حرائق من دفائن التاريخ لا تصلح إلا لإبعاث الفتنة وإعادة نفخها بوسائل حديثة، في إطار صراعات معقدة تستنزف طاقاتهم وبقائهم كأمة متماسكة، مستزيدين بإعلام منهمك أحياناً على تحضير أرواح الأمجاد، وأحياناً على التعبئة المعنوية للذود عن النصوص المقدسة من أعداء مفترضين في الداخل والخارج، وما يُنتج عن تفسيراتها المختلفة وأشياء كثيرة أخرى تساهم في صناعة وعي يعمل على تغييب الاجيال عن مسئولياتهم.
الغرب، على الصعيد المادي يصنع كل شي، وانتقل مؤخراً الى الإختصاص بالصناعات المتطورة التي تشكل ندرة وقيمة كبيرة تاركاً لدول، تذهب في مساراته، كثيراً من الصناعات السلعية ذات الاستهلاك الشعبي الكبير فتكوَّن من خلال هذا عالم صناعي صاعد لاحق بالغرب.
أما العرب فقد اكتفوا بأن يصبحوا أمةً مستهلكةً منتفخةً بالمنتوجات الخارجية بأطيافها الواسعة حيث تكتظ الاسواق بكل ما يجعل من وجود العرب ضرورة كمجتمعات معزَّزة بالسيولة الجاهزة للتسوّق، يشترون كل شيء ويصدرون بشكل رئيس مواردهم ورساميلهم، فالعرب من أكثر الشعوب المصدرة لرؤوس الأموال إلى بنوك العالم.
وعلى الصعيد الاستراتيجي يضع الغرب الخطط البعيدة المدى للمحافظة على سيادته وريادته، بينما يُدفع العرب إلى تطبيق ما يخصهم منها، فحين بدأت تتناثر شظايا مصطلح الفوضى الخلاقه، إمتصه العرب بنهم شديد وسخّروا كل ماكناتهم التحليلية لقراءة ما سيأتي من وراء "تينك الكلمتين" دون أن يفهموا ما فوقها وما تحتها، وما يعتمل على الطريق حتى تفجرت "الخلّاقة" فوق رؤوسهم وبإيديهم، وكأن ساسة الغرب يقرأون أقدارنا ويهيئوننا لها ويستعينون بالعرب على العرب لتطبيقها.
لدى الغرب وسائل بصرية عملاقة تضع أقطار المجرات والسُدم والبقع السوداء أمام أعينهم ويُرى بها ومن خلالها أنظمة نجمية وأضواء ومسافات لا يقدرها عقل مجرد... بينما "هابل" العرب له مواصفات مجازية مختلفة، حيث يرون به، فيما يرون، فضاءات السقيفة وكربلاء وألف غبار يحجب آفاق المستقبل ويضعهم حطباً ووقوداً لإعادة إنتاج تاريخ الدماء بوسائل أشد فتكاً.
لقد ضاق بالعرب رحب المكان وفضاء العقل حتى انحشروا في سياقات خطرة، وخابت سهامهم تحت وطأة ما فعلته وتفعله الأنظمة السياسية الفاسدة، وما ترسب وتصلب في العقل الجمعي من ثقافات شمولية، وما ينتج حالياً عن التلقين المستمر والمتتابع من علماء الفضائيات الذين يسعون الى تحويل الشباب العربي الى روبوتات تسير وفق برمجياتهم الخطابية وتفسيراتهم المنغلقة على النصيّة المتشددة، والتغريض بالاستدلالات الملتبسة. وبدلاً من أن يأخذ الدين شعوب المنطقة بتعاليمه السمحة الى رحاب الأمم الحديثة وإلى قلب الحضارة جعلوا من الدين سفينةً تنجيهم من طوفان التطور البشري وترميهم إلى بلاط الخليفة بحواشيه ومواشيه وشعرائه وسيوفه وغزواته وخباياه وسباياه، وكأن الإحساس بالزمن انعدم حتى يُفرَّق بين قرون مضت وأُمم بادت وأخرى ناهضة لتسود، ولم يُدرَك أن العالم سباق محموم نحو آفاق لا محدودة.
إن اكثر ما تجلى ويتجلى في الحاضر العربي مسائل مختلفة لعل أهمها: الحروب بالوكالة، ربط الدين بالتطرف، ربط التنمية بالفساد، تبعية القرار الاستراتيجي للخارج، بالاضافة الى غياب مشروع عربي نهضوي متكامل بخصائصه وسحناته المحلية.
لقد درج العرب أن يأخذوا كل شيء جاهز كما وضعته عقولٌ خارج حدودها دون إضافة أو تعديل أو حتى إعادة تلوين بصبغات "بلدية"، فثمة ما يشير إلى استيراد التجارب وإعادة سلقها محلياً ثم اقتناءها كما هي. فقد تم نقل جاهز للتجارب الرأسمالية من خلال نظام السوق المفتوح بخصائصه الجنينية الاولى دون تزكيته بما يتوجب محلياً أو وضعه في اطار قانوني اقتصادي عصري يحمي الطبقات المختلفة.. كما تم الأخذ بالماركسية-اللينينية من قبل بعض الاحزاب العربية من خلال تجربة نظام الاتحاد السوفيتي السابق فقط كما بدت وزانت لهم، ويتم اليوم محاولة الأخذ بتجربة الدولة الإسلامية "استجراراً" وانقياداً للسلف من حكام الدولة الاسلامية الغابرة، هكذا دون إبداع ودون احساس بدالّة الزمن. ومن خلال المشاهدات الحديثة لم تستطع في هذه السياقات أحزاب اسلامية ووطنية أن تتجاوز "عتبة الفرد أو العتبة الحزبية"، باتجاه المؤسسات والدولة الحديثة ولا تملك مقاربة جاهزة لإدارة الدولة بأنماط معاصرة وإبداع ذاتي، أي بكلمات أخرى تغيب عن العرب مقاربات لأشكال الدولة الحديثة، إسلامية كانت أو مدنية أو حتى وطنية مجردة، بشكل واقعي قابل للتطور والحياة، وتقتصر الطروحات في قوالب اصطلاحية عامة لا غير، فتخلّف العرب حتى عن محيطهم.
لا توجد هناك وصفات جاهزة للذود عن العقل العربي ودرء المخاطر الناجمة عن التعقيدات التي تلم بالواقع وعن الاستسلام لنظرية المؤامرة وأن كل شيء قدري ومرسوم من الخارج... الخ، لكن يجب أن يبرز التنويريون من علماء الدين والمجتمع والفلاسفة لإعادة توجيه "هابل" العرب نحو فضاءات المستقبل، ووضع الأولويات التي يجب أن تبدأ من تجاوز الصراعات والحروب الداخلية.