عن مركز عبادي للدراسات والنشر صدر كتاب "ضحايا المؤرخين .. ابن خلدون وابن عبيد الله السقاف أنموذجاً" من تأليف الأخ الباحث الأستاذ / وضاح عبد الباري طاهر، انتهى من تدبيج مقدمته في 3 شعبان 1428هـ الموافق 16/8/2007م، والكتاب رحلة عاشها الكاتب في أدغال التاريخ والمؤرخين..
وأجلى المؤلف مراده بما لخصه في ظهر كتابه قائلاً:"إن هذا البحث يحاول الخروج من ضيق التاريخ ولعنته إلى رحمة الله ومغفرته، فهو الذي هذب النفوس أفضل تهذيب حين علمها حسن الظن وحسن القول عند سماعها ما يريب، فقال في كتابه العزيز: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين) (النور:12)
ثم قال:" لقد جردت في هذا البحث أسنة القلم للدفاع عن علمين من أعلام اليمن الأفذاذ: عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي وعبد الرحمن بن عبيد الله السقاف الحضرمي نافياً ما ألصق بهم من تهمتي الرفض والنصب كما دافعت فيه عن بعض العلماء على سبيل الاستطراد والتمثيل، وتوسعت في الرد في بعض المباحث لضرورة اقتضت ذلك، والتزمت في دفاعي عن هؤلاء الأعلام بذكر أدبياتهم التي تؤثر عنهم وتنسب إليهم، لا ما ذكره خصومهم، لأنها وحدها التي تدينهم أو تبرئهم".
وإطلالة على الكتاب تعكس ثراء المادة التاريخية ونوعية النقولات ووفرة المصادر، وزادته توشيات المؤلف وتحليلاته واستطراداته ألقاً ورونقاً وزينة، وسنحاول في هذه العجالة قطف بعض ثماره اليانعة فيما يتعلق بشخصية ملف "الوسطية" العلامة ابن خلدون، وما دار حوله من اللغط من قبل مؤرخي سيرته أو دارسي "مقدمته"- في سياق ما كتبه أخونا الأستاذ / وضاح.
تحت عنوان "ضلال التاريخ" يحكي كاتبنا عدم استغرابه مما قاله العلامة ابن عبيد الله السقاف عن ابن خلدون بأنه :"كان يُزنّ (أي يتهم) بشيء من النصب"، وذلك لأن ابن عبيد الله تلقف التهمة - كما فعل غيره- دون تثبت أو تمحيص.
والنصب- كما أفاده الكاتب في الهامش- عرفه ابن الأمير الصنعاني في كتابه "ثمرات النظر" نقلاً عن صاحب القاموس بأنه: التدين ببغض الإمام علي - رضوان الله عليه- وقد اعترض على هذا التعريف العلامة المحدث علوي بن طاهر الحداد في كتابه :( إقامة الدليل على أغلاط الحلبي في نقده العتب الجميل) تقييد النصب بالتدين قائلاً: والصواب أن النواصب هم الذين نصبوا العداوة له رضوان الله عليه بغير تأويل صحيح سواء عدوا ذلك ديناً أو لا.
أقول: ويمكن إضافة اعتراض آخر على الاثنين وهو تقييدهما البغض أو العداوة بالإمام علي دون بقية أهل البيت.
ثم سجل الكاتب أهم الآراء التي أثارت لغطاً على ابن خلدون، وسأحاول تلخيصها بقسمتها إلى مظهرين:-
المظهر الأول: الآراء التي عُدّت كقرائن وأمارات على النصب
1-قوله عن الإمام الحسين بن علي - رضي الله عنهما - فيما نقله المؤرخون- أنه قتل بسيف جده. وقد تتبع - كاتبنا العزيز- المسار التاريخي لهذه التهمة، التي أذكت أوار كلام شديد ولعن، وذلك لأن جل المؤرخين تناقلها بعضهم عن بعض دون تثبت أو رجوع إلى الأصل، وخلص الكاتب بأن ابن خلدون لم يفه بهذا الكلام قط، وإنما نقله في (فصل ولاية العهد) من "مقدمته" عن الفقيه ابن العربي المالكي منكراً وراداً عليه حيث قال (أي ابن خلدون) : "وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه الذي سماه "العواصم والقواصم" ما معناه أن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء".
ولذا قال أحمد تيمور باشا:" فانظر كيف يُنسب إلى الرجل ما لم يقل ويشنع عليه هذا التشنيع الذي لا يستحقه.
ولا جدال في أن ابن خلدون لم يصب في بعض مواضع من مقدمته، ولكنه لم يكن فيها الإ كغيره من البشر في عدم العصمة من الخطأ، فالتمسك بهذا القليل لطمس حسناته الكثيرة ليس من الإنصاف في شيء.على أن هذا القول مع ما عليه من مسحة التحامل لا يُذكر في جنب تقويل الرجل ما لم يقل وتحميله تبعة ما جازف به غيره . ونحن نسأل الله السلامة من الوهم، والتسرع في الحكم على الشيء قبل التثبت منه".
2- تصحيحه نسب الفاطميين حكام مصر، وهذا الرأي خالف فيه ابن خلدون الكثير من علماء السنة، ووافقه فيه المقريزي، وهذا ما سوغ - حسب تعبير الكاتب- للحافظ ابن حجر في نقده للمقريزي أن يقول:" والعجب أن صاحبنا المقريزي كان يفرط في تعظيم ابن خلدون، لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد الذين كانوا خلفاء في مصر وشهروا بالفاطميين إلى علي، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نقل عن الأئمة في الطعن في نسبهم، ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي. وكان صاحبنا ينتمي إلى الفاطميين فأحب ابن خلدون، لكونه أثبت نسبهم، وغفل عن مراد ابن خلدون، فإنه كان لانحرافه عن آل علي يثبت صحة نسب الفاطميين إليهم لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين، وكون بعضهم نسب إلى الزندقة، وادعى الألوهية، وبعضهم في غاية التعصب لمذهب الرفض حتى قتل في زمانهم جمع من أهل السنة، وكانوا يصرحون بسب الصحابة في جوامعهم ومجامعهم. فإذا كانوا بهذه المثابة وصحّ أنهم من آل علي حقيقة، التصق بآل علي العيب، وكان هذا من أسباب النفرة عنهم والله المستعان" أهـ. وأفاد الكاتب في الهامش أن ممن قال بصحة نسب الفاطميين العبيديين في مصر ابن أبي الحديد في شرحه على "نهج البلاغة"، والنسابة ابن عنبه في "عمدة الطالب"، وأبو الفداء الملك المؤيد إسماعيل بن أيوب في تاريخه "المختصر في أخبار البشر"، وابن الأثير في "الكامل"، ومحمد بن حيدر النعمي في "الجواهر اللطاف في تاريخ وأنساب صبيا والمخلاف".
3- قوله عن أهل البيت في (فصل علم الفقه) من "مقدمته" :"وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أئمتهم وهي كلها أصول واهية". وقد حاول - كاتبنا العزيز- توجيه كلام ابن خلدون هذا في الهامش قائلاً: ليس كل أهل البيت يتناول الصحابة بالقدح، أو يقول بعصمة الأئمة ولعل ابن خلدون يقصد الإمامية".
4- تركه في تاريخه ( العبر) بياضاً في حدود ثلاث صفحات لم يذكر شيئاً فيها عن مقتل الحسين- رضوان الله عليه - .
5-تضعيفه أحاديث المهدي، والمهدي من أهل البيت اتفاقاً. وقد أعرب الكاتب عن عدم موافقته ابن خلدون في رد أحاديث المهدي، إذ قد بلغت حد التواتر، وأحال في الحاشية على بعض العلماء الذين قالوا بتواتر أحاديث المهدي:منهم القرطبي في "التذكرة" والمزي في "تهذيب الكمال" وابن القيم في" المنار المنيف" وابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، والسخاوي في"فتح المغيث" والسيوطي في "العرف الوردي" وابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" والشوكاني في "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والمسيح". وقد رد على ابن خلدون في هذه المسألة بكثير من الردود؛ منها رسالة المحدث الحافظ احمد بن محمد بن الصديق الغماري بعنوان:"إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون". وقد قال العلامة محمد رشيد رضا:" ابن خلدون لم ينكر أحاديث المهدي لعدم الإطلاع على ما روي فيها ولا تقليداً لأحد من الناس، وإنما بنى إنكاره على قاعدتين: أحدهما: نقد رواة الأحاديث بنقل ما قاله أئمة الحديث في جرحهم. الثانية: عدم انطباق مزاعم الناس على أصول العمران وسنن الإجتماع البشري من قيام الأمور العامة بالعصبية". وقد قال المحدث أحمد الغماري في كتابه "علي بن أبي طالب إمام العارفين": " ثم (أي ابن خلدون) هو مع ذلك لا يجد سبيلاً إلى نفي كل فضيلة عن علي وآل بيته الأطهار،أو إلصاق عيب وخطأ بهم الإ بادر إلى ذلك كما صنع في أحادي المهدي المنتظر، فراراً من إثبات كون المجدد الذي يحيي الله به الدين آخر الزمان من آل علي عليه السلام وعلل ذلك بأن آل البيت لم تبق لهم عصبية، والملك لا يقوم الإ بالعصبية، وما غرضه إلا احتقار أهل البيت ..".
6-إنكاره خرقة الصوفية المنسوبة للإمام علي - كرم الله وجهه- فقد قال الغماري في "البرهان الجلي": " وقد طعن في الخرقة وسندها جماعة، وهم قسمان: قسم اعتقدوا صحتها، ورووها تبركاً بها، وتكلموا في سندها من جهة الإنقطاع، وعدم الإتصال، وقسم طعنوا في أصلها واعتقدوا بطلانها، لا لعدم سماع الحسن من علي فقط، بل لكونها مروية من طريق علي عليه السلام، وهم ينفون عنه وعن آل بيته الكرام كل فضيلة، لاسيما إذا توهموا منها ثبوت مزية لعلي - عليه السلام- على غيره من الصحابة وهم النواصب أعداء آل البيت كابن تيمية وابن خلدون" أهـ.
المظهر الثاني :- الآراء التي أُخذت
كمستمسكات على الشعوبية
الشعوبية - كما أفاد كاتبنا العزيز في الهامش- هي من الشعوبي وهو محتقر أمر العرب كما في القاموس، وقال ابن منظور: وقد غلبت الشعوب بلفظ الجمع على جيل العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبي، وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم، ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم". وقال الكاتب إن الشعوبية لم تنشأ إلا من استعلاء متعصبة العرب على العجم ثم أورد ما يدل على ذلك.
وابن خلدون أتهم بالشعوبية وذلك في كلامه القاسي عن العرب، كقوله :"إن العرب لا يتغلبون إلا على البسطاء". و" أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع اليها الخراب". و" أن العرب أبعد الناس عن الصنائع " و" أن حملة العلم في الإسلام كلهم من العجم" كما أثار حفيظة علماء مصر والمصريين في قوله :" إنهم قوم يغلب الفرح عليهم، والخفة والغفلة عن العواقب".
وقد ذكر الكاتب عدداً ممن وصم ابن خلدون بالشعوبية منهم: الدكتور طه حسين، وسامي الكيالي في كتابه " الفكر العربي بين ماضيه وحاضره" والأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه "ابن خلدون حياته وتراثه الفكري" وقد غلا وزير المعارف العراقي في اقتراحه أن ينبش قبر ابن خلدون وأن تحرق كتبه.
وتولى الدفاع عن هذه التهمة الأستاذ ساطع الحصري في كتابه "دراسات عن مقدمة ابن خلدون" ومقالاته " آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع". والأستاذ أبو القاسم محمد كرو في كتابه "العرب وابن خلدون"..يذهب الحصري إلى أن ابن خلدون يعني بالعرب البدو والأعراب سكان البادية، فهم الذين من صفاتهم النهب والاعتداء ولا يميلون للصناعات والأعمال.
أما الدكتور عبد الجليل شلبي في كتابه" لمحات من حياة ابن خلدون وآثاره العلمية" فقد قبل بعض اعتذارات ساطع الحصري عن ابن خلدون، ولم يقبل البعض الآخر.
وأخيراً : انتهيت من هذه القراءة عجلاً لألج في كتاب عالم المعرفة لشهر يناير من العام2008م وعنوانه :(علم الإجتماع الآلي) إذ أخشى أن يصل الأمر ببعضهم مع ابن خلدون إلى ما قاله مالك بن نبي:"عندما تغيب الفكرة يبزغ الصنم.
* بقلم: محمد عبد الصمد الهجري
- باحث في فلسفة الدين والكلام الجديد
* عن : صحيفة الجمهورية