في صباح ذلك اليوم كان رذاذ المطر يهمي على المدينة ويكسوها "بوشاح حريري". لم تكن عدن تعلم بأن شتاء كانون الثاني يجثم على مخزون من سعير.
البراكين ابتلعت ألسنتها منذ ملايين السنين ورست عدن فوق فوهاتها المنغلقة على قيعان صهاراتها العميقة. ثم استتبت عند أطرافها شواطئ نحتتها صدوع خليج عدن، لتشكل كيلومترات ذهبية من الرمال الدافئة، تلامس لهفة الأمواج المتحفزة للنيل من عطش البر القاري، حيث تتهادى سواحل وخلجان تشعل شغف الشموس ويسيل لها "لعاب القمر" في ليال الشتاء كتلك الليالي الكانونية.
في ذلك اليوم كانت لعدن مواعيد كثيرة مع الحياة.. مواعيد عمل، وعشق، وزفاف، ورحلات، وولائم، ومشاريع فرح بألوان مختلفة، وكانت هناك سماء ممتدة فوق رؤوس العابرين توشك أن ترتّل "إجتراح المطر" لمدينة يعربد الصيف كل عام فوق تضاريسها لينهب حمرة الخدود ويضغط على صدرها الكاعب بوطأته البدائية الشرهة.
عدن في ذلك اليوم تأجلت كل مواعيدها وتعطلت فراديس الشتاء ومداواة ما خلفته شموس أيلول وتشرين وما قبلها وما بعدها.
كل المواعيد تبخرت ولم يبق سوى وعد القَدَر المرّ.
١٣ يناير، وما تلاها، ذهبت الى أبعد مما كان يتخيله أي عقل مريض، وتجاوزت حدود الصراع وطبيعته فلم تكن هناك أسباب كافية تبرر جزئية صغيرة منها.
ذهبت عدن ومعها الجنوب كله الى فصول أخرى لم تكن قد اعتملت في مخيالها السياسي، ولم تمتلك مقاربة واحدة لكيفية استعادة رشدها.
ذهبت بعيداً ولم تعد منذ تلك الساعات.
ذلك كل شيء باختصار.
واليوم يحاول الناس أن يقتنعوا بأن تلك المأساة قد ولَّت إلى غير رجعة وحلَّت في ذكراها مناسبة أخرى... مناسبة، لمحاولة العودة الى الروح البكر، تلك الشعبية البريئة المنفتحة.
إنها مهمة ليست سهلة وليست شعار أو نوايا مجردة.
هي ليست تقنية مبتكرة، بل عملية غرس وإنماء روحي وفكري، عليها أن تغير بشكل جذري عقليات التفرد والإلغاء والهيمنة والفوقية والانتماءات المعنوية والجغرافية، وتطبيع الذات على حقائق التنوع، وتزرع بذرات قيم الحداثة. وهذه الاخيرة هي محتوى وإطار التسامح، فالتسامح لن يتعمق مالم تتحقق تلك القيم في الروح والضمير والعقل وتتجلى في السلوك، وهذا بحد ذاته يحتاج الى تاريخ من الاشتغال على الوعي الاجتماعي.
إنه مشوار طويل.
١٣يناير، كما أسلفنا في كل مرة، ليست مناسبة لأن نشقى بها أو تشقى بنا، وليست مناسبة للاحتفاء، هي مقيتة ودميمة مظلمة ومالحة وحزينة.. ويجب أن تُبطَل مفاعيلها بداخل كل فرد لتبقى في الذاكرة كغيوم داكنة وغير مألوفة مرَّت في سماوات الارض المجاورة لمنظومة البحار الساحرة... وذلك من خلال تمثل طرق جديدة وفاعلة للحياة وعزل ما ترسب من ماضٍ كئيب.
عدن تمتلك من الأحزان والانكسارات ما يجعل منها مدينة تشتهي الحياة أكثر من كل حواضر الدنيا، وترجو عودة المواعيد الصغيرة وزغاريد الأفراح وحيوية الفصول، وتحتاج الى ظلال رهيف يحبط في تفاصيلها توغل صيف جارح، وتحتفي برذاذ مطر شتوي جديد يهمي عليها كأنه "وشاح من حرير."