مـصباح الـمتـوكـل !

2014-11-12 01:18

 

“يسألونك عن الجنوب، قل الجنوب وطن مستباح، في فم أبنائه مرارة، وفي نفوسهم حسرة، وفي مكنوناتهم جراح، وفي مآقيهم دموع، وفي أعماقهم إرادة لا تستكين” (الشهيد الدكتور عبدالملك المتوكل).

 

كثيراً ما استوقفنا عطاءه المميز ونصحه السديد وجرأته المعهودة، تكونت علاقتنا به من خلال ما كان ينشره في معظم الصحف ومحاضراته بل من خلال فكره النير ونبرة صوته الودودة.. وملامحه النابهة بكل ما تعبر عنه من نبل إنساني.

 

لم يكن الدكتور المتوكل شخصاً عادياً في نمط تفكيره، فتلك الهامة الأكاديمية الفذة تعدت نطاق مكانها الجغرافي والاجتماعي إلى العالمية، بل إن مثل هؤلاء يشكلون همزة وصلنا بالعالم المحيط، إن جاز التعبير، لما لهم من حضور فكري إنساني يتجاوز المسميات والسحنات والديانات إلى الإنسان كإنسان وقيمة.

 

هكذا كان غاندي اليمن، إن جاز التعبير، بحكم ما لديه من صفات زهد ونقاء وفكر وهاج، عاش بسيطاً في وسط الفقراء من أبناء شعبه، فإن لم يكن يحيك أصلا الملابس التي تغطي جسده النحيل على غرار ما كان يفعل (المهاتما غاندي)، إلاَّ أن المتوكل أيضاً كان يحيك بفكره رداء يستر الفقراء من أبناء شعبه ويقيهم قيظ الصيف وزمهرير الشتاء القارس.

 

هكذا عاش قريباً منهم متصلاً بمعاناتهم يبعث الآمال في دروبهم نحو حياة آدمية تليق بإنسانيتهم.. ربما مثل بهذا المسلك الوعر ودروب المخاطر التي اختارها حالة استثنائية في نمط التفكير في بلد اجتاحته حمى الأنا والذاتية المفرطة.

 

كان مصباح المتوكل ينير دروب عتمة السير في مجاهيل اليمن الموحشة.. فأبوا إلا أن يطفئوا مصباحه، وحين أخذت فكرة استهداف حياته نمطاً تصاعدياً لدى من يقررون متى ما يشاءون خطف أنفاس من وضعوا على قائمتهم لم يكن الرجل يعيش نمطا خاصاً أو حياة روتينية محكومة بضوابط موكب سيره والأماكن التي يمكنه أن يرتادها، بقدر ما كان وسط الفقراء في شوارع مدينته.. يزاحمهم السير على أرصفتها وحافلاتها العامة ومقاهيها الشعبية، كما لم يشأ أن يحترس رغم المحاولات الواضحة التي استهدفت حياته أكثر من مرة، ربما لأنه لم يعد حريصاً على حياته الشخصية بقدر حرصه عل الموجوعين والمعذبين من أبناء جلدته، وحين باغتته يد الغدر كان هناك وسط العامة في شوارع آزال الحزينة لرحيله.

 

رصاصات غادرة تخطفت عقله النير وروحه الإنسانية تاركة في مسرح جريمتها ندبة تاريخية لا تمحى، بل هي ندبة في مؤشرها ما يوحي بمنعطف أكثر مآساوية وترويعاً، فحين يستهدف العقل فذلك يؤذن بسيادة لغة أخرى لا تتصل بإنسانية الناس ولا تحترم خياراتهم وآدميتهم وحقهم في العيش الكريم، فالدكتور المتوكل فلتة، لا يمكن أن تتكرر بنمط تفكيرها وعمق رؤيتها.

 

ربما أن قراءاته المتفردة في تشخيص الواقع ظلت تؤرق من أضمروا الشر لحياته وحياة أبناء شعبه بصورة عامة.

 

غادر مسرح الحياة رغم ما لديه من مخزون فكري كان يريد أن يعطينا إياه، ربما كان يريد أن يمنعنا من مواصلة رحلة التيه والانزلاق في عوالم لا تتصل بثقافتنا وحضارتنا وديانتنا وإنسانيتنا.

 

إلا أننا وفق الكثير من المعطيات ماضون في دروب تيهنا التي لا نمتلك معها معالم شواطئ الوصول، وهنا يكمن عمق مأساتنا، وإلاَّ لما منع مثل هذا العقل من البقاء، ينشر الفضيلة والحكمة على غرار من سبقه من المفكرين والعلماء.