أكاد أهاتفك كعادتي ... كأني لم أصلّ عليك، أستاذي الجليل

2014-10-31 13:47
أكاد أهاتفك  كعادتي ... كأني لم أصلّ عليك، أستاذي الجليل
شبوة برس- خاص الشحر

 

 


2 نوفمبر 2013 - 2 نوفمبر 2014

 

هل مرّ عام على الرحيل؟!

 

     

في سياق رثاء نفسه التي كانت تموت بالتقسيط، قال امرؤ القيس يصف ‏معاناته من أوجاع المرض:

 

فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعة * ولكنها نفسٌ تساقطُ أنفُسا

     

وفي لحظات تشييع جثمان فقيد الأدب والتاريخ والثقافة الأستاذ عبدالرحمن الملاحي إلى مثواه الأخير في مقبرة باهارون بالشحر، كنت أحس بوخز قول امرئ القيس في خاطري، وقد تملكني حضوره كثيفاً شاخصاً في كل شيء، فكنت أرى المشيعين ولا أراهم، فمازالت قبلة الوداع ندية على رأس أستاذنا قبل ساعات من صعود روحه إلى بارئها، إذ كنا وثلة من الزملاء (باعيسى، الجعيدي، الجابري، بن سلمان، العوبثاني، باحميد، بن زقر، العجيلي، وأنا) في زيارة له ما كنا نحسب أنها وداعية، وأننا سنكون آخر من يجالسهم من تلامذته ومحبيه، وقد أضفى على الجلسة من روحه مرحاً كعادته، قائلاً أن روحه محلقة معنا، رداً على قولنا إن أرواحنا معلقة به، وتسابق خطونا إليه، محبة واشتياقاً ورغبة في الاطمئنان على صحته.

  

عبدالرحمن الملاحي، بالمعنى الذي جال في خاطري، نفس تساقط أنفساً، ليس على مؤدى معنى امرئ القيس، ولكن بتحوير سياقي، فالملاحي هذا الرجل البسيط، الودود، المتواضع، الشبابي الروح أبداً، الزاهد في عرض الدنيا، العالم المجتهد في طلب المعرفة، لم يكن فرداً عابراً في زحام عابر، ولكنه كان ذاكرة جمعية، هي مما تبقى من أعلامنا المتميزة بثقافتها الموسوعية.

   

دنوت من سريره في اللقاء الأخير ، محتشداً بدفء خاص ينث من روحه التي كثيراً ما كان يحيطني بها منذ أن دنوت منه أول مرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كنت حريصاً على أن أكون خفيفاً عليه، فصحته لا تحتمل أن يتحدث أكثر مما ينبغي، لكنه كان فرحاً بنا، وكان مهيئا نفسه للقائنا منذ الظهيرة، ولم نكن نعلم أن لقاءنا هو آخر المواعيد التي ضربها له القدر.

   

في زحام السؤال عن الحال، والثقافة، والأدب، ولاسيما المسرح الذي عشقه كثيراً، كانت غيوم السياسة تلبّد اللحظة، إذ بادرني، كعادته عندما نلتقي مؤخراً، بسؤال عن آخر تجليات المشهد الجنوبي عامة والحضرمي خاصة، بروح ملؤها التفاؤل بالرغم من منغصات حامضة هنا وهناك، كان يدرك أبعادها وخلفياتها بحس الملاحي المثقف والأديب والمؤرخ، ووعي الملاحي السياسي أيضاً.

   

أكبرت في الرجل العليل هاجسه المشغول بالهم العام، وهو على تلك الحال التي يعاني فيها وطأة المرض، في شيخوخته، إذ لم يكتفِ بالسؤال عن تلك التجليات، بل كان يبدي أسفاً على إضاعة الفرص التاريخية للخلاص المبكر من الهيمنة على الجنوب عامة وحضرموت خاصة، وكان يرسل إشاراتٍ مقتضبة في ما يشبه الوصية، مفادها أن اللحظة لا تحتمل مزيداً من الانقسام والتشرذم، وأن حضرموت، وهي عنده عمق الجنوب استراتيجياً، أمانة في الأعناق، ولا سبيل إلى مزيد من العبث بالوقت، ثم التمعت في عينيه صورة المسرح الذي كان على رأس اتحاد مبدعيه في عدن، في سبعينيات القرن الماضي، فانطلق يتحدث عن تلك الأيام التي كان للمسرح ورموزه، مؤلفين ومخرجين وممثلين، صولات وجولات، تم استهدافها كيما يدخل الشعب في غيبوبة التجهيل، حتى أصبحت بلادنا بلا مسرح، مثلما جردت من ألوان فنونها، وكل ما له صلة بالتشكيل الجمالي للذات الإنسانية، والارتقاء بوعيها وآفاق تفكيرها ورؤيتها للعالم.

  

عبدالرحمن الملاحي لم يمت، ولن يموت في وعينا وإحساسنا، لكن فراقاً بيننا يشعل الدموع في المآقي، لأننا نفتقد إليه الآن أخاً كبيراً، وصديقاً حميماً، وأباً كريماً، وأستاذاً جليلاً، لكنه حاضر بقوة في أعماقناً أديباً ومؤرخاً ومثقفاً غير منقطع عن دور اجتماعي وسياسي، حتى اتخذناه قدوةً طيبة، نطمئن إلى أن وقوع القدم على القدم في مساراتنا ليس أكثر من تناص إنساني محتشد بجماليات روحية وفكرية وإبداعية متجددة.

  

هي انتقالة إذن في المكان، لكن ما يبعث على الألم، يوم رحيله، أن يغادر مدينته التي مات دنفاً بها، من بيت بالإيجار، وهو من هو، مكانةً ودوراً وحضوراً، لكنها مفارقات هذا الزمان الذي كان الملاحيّ شاهداً له وعليه، بعين المؤرخ، أن تضن البلاد على أمثاله في دنياهم بأبسط شروط الحياة الهادئة: البيت، إنما لنا أن نبتهل إلى المولى – عز وجل - أن يثيبه في أخراه بجنة تجري من تحتها الأنهار أعدت للمتقين.

  

إنك حاضر فينا أستاذنا الجليل، ولا غياب، فابتسامتك تضيء الذاكرة الضاجة بك، حتى أنني أكاد أهاتفك بين الحين والآخر، كعادتي، كأنني لم أصلّ عليك، ولم أشيع جثمانك مع جموع محبيك إلى مقبرة باهارون، ولم أحس يومئذ، بوخز قول امرئ القيس في خاطري، إذ تملكني حضورك كثيفاً شاخصاً في كل شيء، فكنت أرى المشيعين ولا أراهم، فمازالت قبلة الوداع ندية على رأسك، أستاذنا، قبل ساعات من صعود روحك إلى بارئها، إذ كنا وثلة من الزملاء في زيارة لك ما كنا نحسب أنها وداعية، وأننا سنكون آخر من تجالسهم من تلامذتك ومحبيك، وقد أضفيت على الجلسة من روحك مرحاً كعادتك، قائلاً أن روحك محلقة معنا، رداً على قولنا إن أرواحنا معلقة بك، وتسابق خطونا إليك، محبة واشتياقاً ورغبة في الاطمئنان على صحتك.

 

* سعيد الجريري