من الطبيعي أن يجتمع وزراء الداخلية الخليجيون في جدة الأربعاء الماضي لمناقشة الوضع في اليمن، فاليمن ساحتهم الخلفية، بل إنهم تأخروا في ذلك، وما حصل من تداعيات هناك هو نتيجة رفع اليد عن اليمن منذ أعوام، والاكتفاء بالمبادرة الخليجية الشهيرة من دون السهر على تفاصيل التفاصيل هناك. نتيجة الاجتماع بيان عام، يحذر إيران من التدخل، ويدعم الحكومة اليمنية المتداعية، ويشجب الاحتكام إلى السلاح، ولكنه لم يقدم وصفة سحرية لليمن.
والحق أنه لا توجد وصفة سحرية لا لليمن ولا لغيره من الجمهوريات العربية غير «الديموقراطية»، ولكن لا أتوقع أن يقترح مجلس التعاون ولا حتى الجامعة العربية اقتراحاً محدداً كهذا، ذلك أن لمعظم الدول العربية مشكلات مع الديموقراطية ينبغي حسمهما من الساسة قبل المفكرين والنخب السياسية، الذين انهاروا مع حال الانهيار العامة التي أصابت عدداً كبيراً من الدول العربية، ولما يقدم أحد مشروعاً عربياً بديلاً غير الحرب والمواجهات الأمنية والمناشدات والشجب والتمنيات.
دول الخليج تقول إنها «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التدخلات الخارجية الفئوية في اليمن»، والمقصود هنا واضح. إنها إيران، ولكن إيران لن تستقر في اليمن طولاً وعرضاً إلا باستقرار الأمر والحكم للحوثيين، ومنعهم من ذلك بتدخل مباشر يعني الحرب ولا أحد يريد الحرب، أو بدعم طرف آخر ضدهم، وهذا يعني حرباً أهلية في اليمن، وهذه ليست في مصلحة دول الخليج والمملكة واستقرارها، بالتالي لا يبقى غير عصا الديموقراطية السحري لمنع تفرد الحوثيين بالسلطة، وكذلك لحماية اليمن من الانزلاق في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، بل ستطفح سلباً على جيرانها، خصوصاً المملكة صاحبة أطول حدود معه.
سيصرخ أحدهم: «اقتراح غارق في التناقض، فلا السعودية دولة تطبق الديموقراطية ولا شعب اليمن متعلم كي يمارس الديموقراطية ويقبل بتداول السلطة»، ولكن الديموقراطية للجمهوريات العربية ليست اختياراً. إنها واجب، إنها العلاج الوحيد الممكن لتنجو، ليس من حال التخلف والفساد والاستبداد. لقد تعدت الجمهوريات العربية تلك الحال المرضية، إلى حال أخطر هي الاحتراب الأهلي والتفكك الكامل. بالتالي إنها «الديموقراطية أو الحرب الأهلية»، فالزعيم الواحد الذي حكم اليمن وليبيا وسورية والعراق ومصر بديكور ديموقراطي مصطنع، وحقق بقوة الأمن «استقرار القبور» في بلده، لن يعود بعدما سقط في ثورات شعبية حقيقية في 2011، والدليل على ذلك واضح جلي في الاحتراب الأهلي الذي يدمر سورية والعراق وليبيا، وما اليمن عن هذه الدول ببعيد إن لم يتداركه أخ كبير برعاية واهتمام. كان بإمكان تلك الدول الثلاث النجاة من مصيرها الحالي لو احتكمت للديموقراطية الليبرالية ونتائجها كرهاً أو طوعاً.
أما التعذر بأن الشعوب غير مستعدة للديموقراطية، فهذا هرب من العلاج الوحيد المتبقي لهذه الشعوب البائسة. الحقيقة أن الشعوب وإن كانت غير متعلمة وقليلة الخبرة بالديموقراطية (تلام في ذلك الأنظمة الفاسدة التي حكمتها)، فإنها تعلمتها بسرعة، فطوابير الاقتراع الطويلة التي شهدتها الدول العربية التي نجت من الاستبداد بعد ثورات 2011 وعراق ما بعد صدام حسين خير دليل على ذلك. الذي فشل وثبت أنه غير مستعد للديموقراطية هي النخب السياسية والمثقفون، الذين لم يقبلوا بنتائجها، وأثاروا الفتن في مجتمعاتهم، وحشدوا الجماهير خلف رغباتهم الأنانية، فأفرغوها من محتواها واستحقاقاتها، واحتموا بالاستبداد الذي اشتكوا منه يوماً، عسكراً كان أم طائفة أم قبيلة. هؤلاء هم الذين يحتاجون إلى أن يتعلموا الديموقراطية وليس المواطنين الذين يسمونهم «الغوغاء» عندما لا يصوتون لهم.
نعم نفتقر إلى ثقافة واعية بالديموقراطية، وهي أزمة قديمة جديدة تمس معضلة التوازن بين «الحكم الراشد» وعدم الخروج على الحاكم في التراث التشريعي الإسلامي، التي أدت إلى عدم التوافق مع الديموقراطية على رغم مقاربات حصلت وبدأت مبكراً، أولها مع الدولة العلية العثمانية، ثم في مصر الخديوية، ولكنها ظلت تجارب متعثرة واستمرت بالتعثر حتى ثورات 2011، ولا تزال متعثرة ولا يزال بيننا من يقول إن الديموقراطية غير مناسبة لنا. هذه الثقافة الرافضة للديموقراطية أو العابثة بها ولّدت من بيننا من لم يكفر بها فقط وإنما كفر وقتل من يقبلها ويمارسها. أزمتنا مع الديموقراطية أكبر مما نعتقد، وسيكون تعلمها وتقبلها مؤلماً ولكن الهرب منها إلى الاحتراب الأهلي أكثر إيلاماً.
وحتى لا نيأس، ونستسلم للقائلين بتأجيل الديموقراطية حتى تتعلم الشعوب، يجب أن نتذكر أنها لم تتبلور في صيغتها الحالية إلا في القرن الـ19 في أوروبا، واحتاجت عقوداً وحروباً حتى تستقر، ولم تحسم معركتها مع أفكار غربية أخرى نافستها إلا حديثاً، وتحديداً عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفياتي آخر قلاع الشيوعية في أوروبا، وسبقتها في السقوط الفاشية التي تشبه فكرة «المستبد العادل»، التي يروج لها بعض الاعتذاريين للاستبداد في ثقافتنا.
التناقض الآخر هو كيف ترعى السعودية تحول اليمن وغيره من الجمهوريات العربية البائسة نحو الديموقراطية وهي غير ديموقراطية؟ التناقض هنا فلسفي نظري، ولكن في عالم الواقع لا يوجد تناقض، فحال التعفن والانهيار ليست في السعودية لتحتاج هذا «الدواء»، على رغم أن فيها حراكاً إصلاحياً، ولو أخذت منه جرعات لكان فيها خير ووقاية، أما للجمهوريات فهي «دواء واجب». إنها الحل الوحيد الممكن الذي يمكن لأطراف تحمل مشاريع مختلفة لليمن أن تتوافق عليه. إنها صراع وتنافس ولكن ليس بالسلاح، وعلى الأقل ليس حرباً أهلية، فلا أحد يضمن ألا يلجأ المتحزبون في اليمن إلى السلاح بين آونة وأخرى. إنها ليست عادلة تماماً، ولن تلغي الظلم والمشكلات الاجتماعية الخطرة حتى في المجتمعات الديموقراطية المتقدمة كالولايات المتحدة أو فرنسا أو سويسرا كما يقول فرانسيس فوكوياما عراب الديموقراطية المبشر بنهاية التاريخ وفق قراءته لتطور الفكر الإنساني الباحث عن أفضل نظام للحكم، إذ أصدر كتابه التاريخي الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، والذي ترجم للعربية ونشرته «الأهرام» المصرية قبل أعوام من الربيع العربي، ولكن من الواضح أن قليلاً من النخب السياسية الليبرالية قرأه، ومن قرأه لم يؤمن به.
الحوثيون لن يستطيعوا السيطرة على كل اليمن إلا بحرب أهلية، وخصومهم لن يستطيعوا إخراجهم مما تحت يدهم إلا بالحرب الأهلية نفسها، والجنرال حفتر لن يستطيع أن يلغي «الإخوان» في ليبيا إلا بالاستمرار في الحرب الأهلية الجارية، و«الإخوان» لن يلغوا حفتر إلا إذا انتصروا في هذه الحرب الأهلية، وقس على ذلك العراق وسورية وغيرهما. الحل الوحيد أن يجلسوا جميعاً إلى طاولة برعاية أخ أكبر، إن لم يكن السعودية ودول الخليج المستقرة فسيكون برعاية الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي (حصل هذا في ليبيا)، وأمامهم لافتة تقول: «اختصموا كيفما شئتم هنا، ولكن إياكم والحرب والقتل»، يضعون في اجتماعهم هذا قواعد صحيحة لانتخابات وتداول سلطة والتزام بالديموقراطية. البديل لذلك هو الحرب كما هو جار حالياً.
الطرف الوحيد غير المدعو للديموقراطية هو «السلفية التكفيرية» المتجسدة حالياً في تنظيم «الدولة الإسلامية»، فهم يرفضونها أصلاً، ويكفرون ويستبيحون دم من يقبل بها، وجاء ذكرهم هنا للتذكير أنهم أحد البدائل البشعة بجوار أو مع الاحتراب الأهلي عندما تغيب الديموقراطية.
* الحياة