المناخ كان مؤهلاً لتسربات سلفية بحيث بدأت أيضاً موجة هادئة ونخبوية من تمدد الأطروحة السلفية على حساب تلك الخاصة بالإخوان لاسيما مع التراجع المتزامن أيضاً للصوفية.
تزامنت الموجة الأولى من تسلف الإخوان مع تراجع موقعهم في الحياة السياسية المصرية في عهد عبدالناصر بفعل الضربات الأمنية والملاحقة المستمرة وغياب تام عن الحياة العامة كما أن الأطروحة الإخوانية سجلت غياباً عن الفضاء الديني في مصر وقتها تحت سطوة المصادرة والنقد العنيف الموجه إليها حتى من قبل المؤسسة الدينية، فيما كانت بوادر مد سلفي تتحرك ولكن في حدود ضيقة ونخبوية، أهمها نشر الكتب وتحقيق التراث الديني الذي كان أهم إنتاجاته وقتها كتابات أسست للتيار السلفي، وفي مقدمتها كتب ابن تيمية.
ففي مصر، كان المناخ مؤهلاً لتسربات سلفية بحيث بدأت أيضاً موجة هادئة ونخبوية من تمدد الأطروحة السلفية على حساب تلك الخاصة بالإخوان لاسيما مع التراجع المتزامن أيضاً للصوفية تحت وطأة التحديث المتسارع وسيطرة الدولة على المؤسسة الدينية وإلغاء الأوقاف والقضاء الشرعي.
تحجيم الإخوان
لقد ساهم جمال عبدالناصر في تحجيم الأطروحة الإخوانية عندما تغاضي عن بعض المؤسسات والجمعيات السلفية التي كانت شديدة النخبوية، إذ لم يكن لها أفق جماهيري واسع فلم تثر قلق عبدالناصر ناهيك عن أنها لم تكن لتعارضه، في هذه الفترة مثلاً سيسطع نجم أنصار السنة المحمدية الجمعية التي أسسها حامد الفقي وكانت سلفية صريحة، ثم سينمو الكتاب السلفي والتراثي وسيبرز علماء ومحققون سلفيون أمثال محيي الدين عبدالحميد أو محمود محمد شاكر المحقق والناقد الكبير وأخيه أحمد محمد شاكر المحدث الأشهر والمحقق وكانا ولدين للشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر الذي يمثل رأساً من رؤوس السلفية في مصر، وله فتاوى مهمة في مسألة الحكم بما أنزل الله، ونذكر أيضا عبدالسلام الهراس في هذه الفترة، ثم أعمال محمد رشاد سالم المحقق الذي قدم ابن تيمية.
ويبدو أن المد السلفي الهادئ امتد إلى الإخوان أنفسهم في داخل السجون الناصرية بحيث تسجل هذه الفترة بداية دخول عدد من الأدبيات السلفية في مناهج الإخوان عبر المقررات التي كان يتم تدارسها في هذه المعتقلات مثل سبل السلام والمغني وزاد المعاد ومعارج القبول وغيرها فكان أن دخل المنهج الإخواني بدءاً من نهاية الستينيات، روافد سلفية واضحة.
مخاض التحول ومرحلة التأسيس
هكذا فقد تعزز المد السلفي في مصر بفعل مزاج سلفي مجتمعي وطلابي آخذ في الانتشار كرد فعل على نمو مظاهرالابتذال في تلك الفترة لكن أيضاً بفعل تراجع الأطروحة الإخوانية بعد ضرب مشروعها وكوادرها وهياكلها التنظيمية وشكل هذا التداخل المستوى الثاني في مسار الموجة الثانية من تسلف الإخوان بحيث حدث بينهما ما يشبه التعاضد لكن تنظيمياً، بين مكونات سلفية وأخرى قطبية ولكن أيضاً بعودة واضحة لتيار العمل العام بعد مرحلة الركود في العهد الناصري. فقد كان الجسم الإخواني الممتد والمنهك بفعل الضربات الناصرية في 1954 ثم 1965 بحاجة إلى ضخ دماء جديدة وكان شباب الجماعات الإسلامية يشكلون ضمانتها الفعلية ومنذ لحظة التفاوض الأولى التي جرت لاستقطاب هؤلاء الطلاب داخل الإخوان جرى التفاوض على طبيعة السلفية الإخوانية على نحو ما.
فمن كانوا يسمون بشباب الصحوة اتهموا الإخوان بالتفريط والتساهل الديني وإهمال أمور العقيدة والبحث فيها، وبأنهم ليسوا سلفيين لاسيما في مسائل الهدى الظاهر كإطلاق اللحية والموقف من الفنون والآداب وخلافه، وقد دفع ذلك كبار الإخوان إلى الابتعاد ضمنياً عن تعريف البنا للجماعة (وللعقيدة السلفية لديه كما رأينا) لكن على قاعدة مجاراة الشباب المندفع نحو السلفية والتسليم لهم. والواقع أنه حين نجح الإخوان في ضم القطاع الأكبر من هؤلاء كانت السلفية تثبت أقدامها وتملأ فراغ المنظومة الإخوانية، يكفي أن نعرف أن أول طبعة لكتاب قواعد المنهج السلفي لمصطفى حلمي كانت في دار نشر يملكها الإخوان وهي التي صارت تعرف بدار الدعوة في الإسكندرية، كما سلموا لهم في الهدى الظاهر فاضطرت قيادات الإخوان إلى إطلاق اللحية والتزام كل السنن الظاهرة وعلى رأسهم مصطفى مشهور مرشد الجماعة لاحقاً وعباس السيسي وغيرهم، وحين عاد الإخوان إلى إصدار مجلة الدعوة، لسان حال جماعتهم، عام 1976، وهي المجلة التي كانت تصدر من أيام حسن البنا وتوقفت بفعل الملاحقة التي تعرضت لها الجماعة.
التلاقح بين السلفية والإخوانية
بدا أن تماهياً كان يحدث بين الإخوان والمنهج السلفي بالنظر إلى ما كانت تحويه من آراء وأفكار أقرب للخطاب السلفي منها لدعوة الإخوان، فشملت كلاماً في عقد الذمة وحرمة بناء الكنائس ولزوم دفع الجزية ووجوب تطبيق الشريعة دون تقييدها برضا حاكم ولامحكوم، وبحرمة الغناء والموسيقى ولهذا يبدو أيضاً أن محتويات المجلة شكلت مصدراً مهماً لشباب الجماعات الإسلامية (أوجيل إسلاميي السبعينيات) لاسيما في النصف الثاني من السبعينيات حين تكثفت جهود الإخوان لضمهم إلى صفوف الجماعة. هكذا سيحدث التلاقح الإخواني السلفي الأهم داخل مصر بحيث أثرت هذه المكونات السلفية في أفكار قادة هذه الجماعات وأعضائها ونقلها عدد كبير منهم ممن انضموا لاحقاً إلى جماعة الإخوان في نهاية السبعينيات، فتأثر فكر الإخوان بالفكر السلفي كما لم يحدث من قبل. لقد تجلت السلفية الإخوانية الجديدة على غرار المنطق السلفي، في نزعة نقضية تجاه المكونات الإخوانية الأخرى التي ألمحنا إليها في البداية والتي نظر إليها بوصفها الآخر المخالف الذي رفض بشدة فكان المؤثر الصوفي أكثر المكونات تضرراً بحيث تمت ضعضعته واتهم بكل نقيصة في تلك الفترة ثم صار الآخر الأزهري الأشعري عنواناً للانحراف الديني ومثالا على المهادنة وممالأة السلطة وحين وقعت الثورة الإيرانية لم يستطع الإخوان التحاماً مع أكبر حركة تغيير إسلامي في المنطقة بسبب التمدد السلفي في صفوفها، كما برزت إلى السطح قضايا خلافية ذات طابع فقهي بقيت محل نقاش طوال عقد السبعينيات.
كمون السلفية الإخوانية
لكن مصر كانت مشرعة على تغييرات متسارعة وكانت القضايا الكبرى تلهب المصريين لذلك لم يكن للسلفية صدى كبير في المنعرجات التاريخية الكبرى، لاسيما تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي وبدايات التفاوض ثم رفض السلام ومعاهدة كامب ديفيد لاحقاً والتظاهر ضدها، ثم أفغانستان بل والموقف من السادات أيضاً، إضافة إلى أن مصر كانت تزخر بعدد كبير من العلماء والدعاة مثل عبدالحليم محمود ومتولي الشعراوي ومحمد الغزالي وأحمد المحلاوي وصلاح أبوإسماعيل وحافظ سلامة وعبدالحميد كشك وعبدالرشيد صقر ومحمود عيد وصلاح الصاوي وإبراهيم عزت وكذلك بأساطين العمل العام من حزبيين وقانونيين وإعلاميين من كل التيارات، كانوا يملأون الساحة السياسية والإعلامية المصرية، بل إنه غداة اعتقالات عام 1981 كان هناك قائمة تحفظ ضمت أكثر من ألف اسم يمثلون كل التيارات، بما يؤشر على ما كانت تعيشه مصر قبلها من حراك سياسي غير مسبوق.
في مثل ذلك المناخ كان لأطروحة الحضورفي المجال العام من الزخم القوي ما لم تصمد أمامه أي ضغوط حتى لو كانت سلفية وذلك بالنظر إلى أن البيئة المواتية والفرض المتاحة كانت تغري قطار العمل العام في الإخوان بالانطلاق ولم يكن لدى السلفيين الإخوان من شباب الجماعات الإسلامية رفض لركوبه بافتراض أنها كانت أطروحة كامنة لدى السلفيين أيضاً من ذلك أنه حين طرح أول رفض لانتخابات عام 1976 وقتها ذهب الطلبة لبعض المشايخ وأفتى لهم الشيخ محمد بخيب المطيعي بجواز الانتخابات فدعم قادة الجماعات الإخوانيون مرشحين في انتخابات 1976 منهم عادل عيد المحامي البارز وقادوا حملته في الإسكندرية تحت شعار عودي يا مصر إسلامية. وبدءاً من تلك الفترة سيجسد هؤلاء (أي قادة الجماعة الإسلامية الإخوانيين) الحركة الطلابية التي قادت قطار العمل العام في جماعة الإخوان بداية من نهاية السبعينيات وزاد من أهميتهم في الجسم الإخواني وسهل انضمامهم إليه أنهم كانوا قد انفتحوا مبكراً على انتخابات الاتحادات الطلابية وسيطروا عليها في الجامعات، وتفاعلوا مع الحساسيات الثقافية الموجودة في الحركة الطلابية آنذاك، تماماً مثلما كانوا يمارسون العمل الإسلامي ويقيمون صلوات العيد في الخلاء، لقد فرضوا حضورهم في المتاح لهم من مساحات مفتوحة للعلم العام قبل أن يبدأوا عملياً استراتيجية المشاركة في الانتخابات العامة مع بداية الثمانينيات حين استفادوا من سياسة المهادنة التي اتبعها نظام مبارك في تلك الفترة ليتكرس اندماجهم في الإخوان بشكل تام وهو ما جعلهم محل انتقاد التيارين السلفيين الآخرين اللذين كان قد اكتمل تبلورهما أيضاً: الاتجاه الأول اتخذ صورة علمية في مدرسة الدعوة السلفية في الإسكندرية فيما اتخذ الثاني طابعاً جهادياً عبر الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد.
هكذا يمكن أن نلحظ أن التأثير المتبادل بين الإخوان والسلفية تميز بصيغة يمكن تحديدها، فبقدر ما كان التأثير الإخواني في السلفية حركياً بقدر ما كان التأثير السلفي لدى الإخوان ايديولوجيا، وسنلاحظ من جهة أخرى، أن التلاقح الحاصل في الاتجاه الثاني والذي أنتج ما سنسميه (جيل السلفيين الإخوانيين) كان عميقاً وممتداً وذا وتيرة متسارعة لكنها ظلت كامنة ضامرة تخضع لحركة مد وجزر فرضتها طبيعة السياق المصري في العقود التالية أولاً، ثم طبيعة هوية الإخوان أنفسهم ثانياً.
* ميدل ايست اونلاين