حسن البنا أسس لمفهوم «تصدير» تنظيم الأخوان المسلمين مستفيداً من تجربة أبو الأعلى المودودي في باكستان.
رؤية في الإسلام السياسي والأحزاب المستترة بغطاء الدين في الشرق الأوسط
الإخوان المسلمون شكوك في التأسيس وممارسات بلا إسلام..!
استخدم مصطلح الإسلام السياسي، سياسيا وإعلاميا وأكاديميا، لتوصيف أحزاب وتنظيمات تسعى «لتغيير الواقع السياسي ضمن محيط معين على اعتبار أن الإسلام كدين يمثل في جوهره نظاما سياسيا للحكم وأنه يمثل نظاما سياسيا واجتماعيا وقانونيا واقتصاديا يسري على المجتمع وكل مؤسسات الدولة».
د فارس الخطاب
لذلك اقتضى التنويه قبل الولوج في قراءة هذا الموضوع أن الحديث هنا عن حركات سياسية اتخذت من الدين غطاء لها، وليس عن الإسلام كدين حنيف يدعو إلى السلام والمحبة والعدالة ونصرة المظلوم وإحقاق الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولأن الشعب العربي وغيره من شعوب الشرق الأوسط قد تعرضت لزلازل النشاط الأيدلوجي والسياسي والعملياتي لهذه الحركات السياسية الدينية من أفغانستان وحتى المغرب العربي فإننا بالتأكيد سنكون واضحين في التعبير عن ماهية النماذج التي ستسمح حدود الممكن في هذه الصفحة في التعرض لها كأبرز ما يعاني منه الإسلام والمسلمون خلال الحقبة الحديثة من تاريخ المنطقة والتي بلغت ذروتها في السنوات القليلة الماضية، ومازالت.
شكلت شبه القارة الهندية ومصر وإيران نماذج قوية للإسلام السياسي خلال القرن العشرين، فقد كان في باكستان (عندما كانت جزءا من الهند) أبو الأعلى المودودي، وكان في مصر حسن البنا، ولاحقا ظهر الإمام الخميني في إيران، وسعت الحركات الدينية السياسية التي قادها هؤلاء وسواهم لتحويل الإسلام من دين سماوي إلى مشروع نظام سياسي استخدموا لأجله كل الوسائل الممكنة لفرضه على مجتمعاتهم كل بحسب بيئته، ثم على المجتمعات الأخرى بصيغ وواجهات مختلفة، ففي الهند أسس المودودي عام 1941م الجماعة الإسلامية في لاهور، على فلسفة «لابد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار».
وفي مصر قام حسن البنا في عام 1928م بتأسيس ما سمي لاحقا بجماعة الإخوان المسلمين التي وصفت نفسها بأنها « إصلاحية شاملة»، ووضع البنا للجماعة ديباجة عامة تهدف إلى «إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي من منظور إسلامي شامل، ثم إلى تكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، ثم الحكومة الإسلامية، فالدولة فأستاذية العالم » وقد رفعت الجماعة شعارها المعروف «الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، وقد تحركت الجماعة خلال حركة دؤوبة وضبابية مموهة خلال عقود لتنشر خلاياها في الكثير من الدول العربية والإسلامية لتنفيذ غاياتها حيثما مكنتها الظروف من ذلك.
أما في إيران فقد قاد الخميني الدولة وفق ما سمي بـ«ولاية الفقيه» وتعني تحديدا «تولية الفقيه باعتباره حاكماً وولياً منصوباً من قبل الله تعالى لقيادة المجتمع والأخذ بيده نحو الأهداف الإسلامية عن طريق تطبيق القوانين الإلهية »، وسرعان ما أفصح الخميني عن أبرز أيدلوجيات ثورته المتمثل بما يسمى حتى يومنا هذا بـ«تصدير الثورة » قائلا: «إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية».
وفي كتابه «فشل الإسلام السياسي» يؤكد الكاتب الفرنسي أوليفر روي، أن التنظيمات الإسلامية في المشرق، بصورهم المختلفة « كجماعة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، ثم الاتجاه التنظيمي الثوري الشيعي في إيران وما جاورها، كل هذه الحركات تتشارك في الكثير من العناصر وإن جاهرت بما بينها من فروق، بمعنى المحتوى الانقلابي على الوضع القائم، ولا تخفي ذلك الأدبيات الرئيسية لمفكري هذه الحركات»، ويرى روي أن «هذه الحركات السياسية فشلت في تقديم نموذج لمجتمع جديد، وحتى الثورة الإيرانية التي طرحت مشروع هذا المجتمع الجديد كما أعلنت عن ذلك أدبياتها المتفائلة والمثالية في بدء قيامها ما لبثت أن امتزجت في نسيج الدولة الإيرانية ذات الثقافة والمنطلقات القومية الراسخة والقديمة، فإدخال الإسلام في الساحة السياسية إذن هو محض مفارقة تاريخية».
مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد كان الإسلام السياسي يتمثل باتجاهين رئيسيين، أولهما يتمثل بجماعة الإخوان المسلمين الذين يعتمدون بصورة خفية على قياداتهم المصرية بحكم النشأة والميلاد، ولكنهم في الحقيقة ليسوا فقط منتظمين على أساس قطري (عربي) بل إن منهم جماعات منشقة في نفس القطر ذات توجه إلى العنف، متأثرة بأفكار المنظر الكبير لتنظيمهم سيد قطب (أعدم عام 1966) وهو من المتأثرين جدا بأفكار أبو الأعلى المودودي، ولعل هذا الأمر يبدو غريبا ومحتاجا للتمحيص والدراسة والمتابعة فعلى الرغم من نشأة وتطور كل من حركة الجماعة الإسلامية في باكستان برئاسة المودودي، وجماعة الإخوان المسلمين برئاسة البنا في مصر، بشكل منفصل ومستقل، إلا أن تشابه الأيدلوجيات والأفكار بين التنظيمين يثير الغرابة والشك في منبع الحركتين ومبتغى تأسيسهما، وقدw أنتجت حركة الإخوان المسلمين في مصر وسواها أحزاب التحرير والجهاد وجبهة الإنقاذ في الجزائر والنهضة التونسي والحرية والعدالة في تركيا إضافة إلى تنظيمات بمسميات مختلفة في باكستان وبنجلاديش والشيشان وغيرها.
أما الاتجاه الثاني، فكان الحركة الثورية الإسلامية الإيرانية التي أسقطت الشاه عام 1979م بقيادة الإمام الخميني الذي ما لبث أن استحوذ على جميع الصلاحيات والمسؤوليات الرسمية والدينية في الدولة لغرضين، أولهما القضاء على كل القوى الثورية المنافسة للتنظيمات الدينية، والثاني محاولة الحصول على نفوذ إقليمي من خلال توحيد وربط التنظيمات الشيعية المحلية للدول الإسلامية ذات الوجود الشيعي مهما كانت نسبة الشيعة فيها، فسيطرت طهران بموجب هذه الاستراتيجية على الأحزاب الشيعية، (ونركز هنا على مفردة الأحزاب وليس أبناء الطائفة الشيعية)، في العراق وأفغانستان ولبنان والبحرين واليمن ومناطق متفرقة من إفريقيا وغيرها.
وهنا أيضا يجب أن نتوقف كثيرا عند موضوع تداخل أفكار الإخوان المسلمين مع منظرين إيرانيين شكلوا أساسات التيارات الدينية الشيعية السياسية عندما كانوا منفيين من قبل شاه إيران في مدينة النجف الأشرف العراقية وهو ما تعرض له كتاب كثيرون وباحثون لكشف أسرار التقارب بين حركة الإخوان المسلمين والحركات السياسية الدينية الشيعية وهو ما يشكل علامات استفهام حقيقية عن توقيتات التأسيس للحركات السياسية ذات الواجهة أو الغطاء الديني في الشرق عموما.
لقد انبرى الرئيس العربي الراحل جمال عبد الناصر في وقت مبكر من منتصف القرن الماضي لكشف المستور عن أصل تنظيم الإخوان المسلمين، وقدم للشعب المصري والعربي وثائق ومستندات تدلل بشكل قاطع على ارتباط مؤسس وقادة هذا التنظيم بأجندات أجنبية، ولأن موضوع الدين موضوع حساس لدى عامة الناس فقد ابتعد الكثير منهم عن أخذ هذه الأدلة على محمل الجد واعتبروا هجوم عبد الناصر على الإخوان مجرد صراع سياسي تسقيطي وقد استطاع التنظيم من خلال أسلوبه الماكر في معالجة الأزمات أن يحول الكثير من نشاطاته السياسية إلى نشاطات دعوية امتدت بين فقراء الناس وبسطائهم فانتشر دعاتهم في القرى والأرياف ليحدثوا الناس بشؤون دينهم وبالتالي فقد ضمنوا استمرار بقائهم وكسبهم للمزيد من الشباب بوازع ديني بحت لما يلبث أن تحول بعد حين إلى نقمة سياسية هادرة ضد النظام الحاكم، أي نظام.
وفي إيران تمكنت السلطات الدينية التي تبوأت مراكز الحكم في البلاد من توظيف التعاطف الشعبي الهائل مع الثورة الإيرانية التي حققت ما يعجز (الحلم) عن تصوره بإزاحة الرجل القوي جدا وهو شاه إيران، نعم، وظفت هذه العواطف والحماسة من أجل غلق البلاد لصالح رؤية الخميني دون سواه، ثم حشد الناس من أجل توسيع دائرة الثورة ورقعتها، فكانت المطالبة بحق إيران في دول إقليمية، أو مطالبة الشيعة في دول أخرى بالتحرك لإعلان ثورتهم ضد حكامها، ولم يوقف أو يبطأ من هذا المشروع سوى قيام الحرب العراقية الإيرانية التي أثبتت حينها فشل أيدلوجية طهران في تحريض الشيعة على الثورات حيث خاض شيعة العراق حربا ضارية لمدة ثماني سنوات، قاتلوا فيها ببسالة كمواطنين عراقيين، وهو ما أصاب الخميني شخصيا بخيبة أمل كبيرة، كما تسببت في انكفاء وتأخر المشروع الإيراني حتى تسعينيات القرن الماضي.
وبالمناسبة فقد أيدت جماعة الإخوان المسلمين الثورة الإسلامية في إيران منذ اندلاعها على اعتبار أنها قامت ضد نظام حكم الشاه الذي كان منحازا لإسرائيل (بحسب توصيفهم).
كما أبدى الإخوان أسفهم على رحيل الخميني، وأصدروا على لسان رئيسهم حامد أبو النصر بياناً جاء فيه «الإخوان المسلمون يحتسبون عند الله فقيد الإسلام الإمام الخميني، القائد الذي فجّر الثورة الإسلامية ضد الطغاة، ويسألون الله له المغفرة والرحمة ويقدمون خالص العزاء لحكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشعب الإيراني الكريم».
يقول أوليفر روي إن «معظم العناصر المشاركة في الأحزاب الإسلامية في الخمسينيات والستينيات هم من الشباب المتعلمين المحبطين، ومعظمهم أيضا من أصل ريفي أو انحدر من صلب عائلات هاجرت من الريف إلى المدينة وعاشت في أحيائها الهامشية، وقد استطاع دعاة الحركات السياسية تعبئة وتجنيد أفراد من التخصصات العملية أكثر من التخصصات النظرية والأدبية عدا استثناء وحيد وهم طلبة كليات المعلمين، الشكل النموذجي لعضو الجماعات الإسلامية هو أن يكون مهندسا أو طبيبا ولد في وقت ما في الخمسينيات في المدينة، ولكن عائلته من الريف، بعض النخبة أكملوا دراستهم في الغرب.
الولايات المتحدة على وجه الخصوص»، وبمراجعة بسيطة لأسماء قادة الثورة الإسلامية في إيران وجماعة الإخوان المسلمين في مصر وحزب الرفاه (الحرية والعدالة) التركي والحزب الإسلامي الأفغاني وجبهة الإنقاذ في الجزائر وكذلك في الأردن والعراق وبعض دول الخليج العربي نجد أن هذه الرؤية صحيحة تماما لجيل الخمسينيات، لكن وبدءا من السبعينيات فإن جيلا جديدا من الإسلاميين بدأ في الظهور تزامنا مع موجة نامية من الإرهاب ظهرت في المنطقة، جيل أقل تعليما من سابقه، وفي الثمانينيات بدأت الحركات الإسلامية السياسية تستقطب عددا أكبر من الطلاب البعيدين عن الاعتدال والذين أطلق عليهم (الأصوليون الجدد)، وهؤلاء تحديدا استطاعوا تحقيق تقدم للحركات الإسلامية السياسية بدءا من الانتخابات الطلابية في الجامعات ثم لباقي ميادين العمل، هذا الكلام ليس في مصر على سبيل الحصر بل دول عديدة مثل باكستان وأفغانستان والجزائر وغزة واليمن والأردن وأيضا بعض الجامعات لدول الخليج العربي، وقد عزز من نجاح التنظيمات السياسية فشل الأنظمة العلمانية والقومية في مواجهة حالات التردي الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي إضافة إلى ترهل نظم الحكم القائمة فكان البديل الجاهز (الإسلام هو الحل).
ومع انطلاق ما سمي بثورات الربيع العربي تبوأت التيارات الإسلامية بشكل لافت مقاليد الأمور في مصر وتونس وليبيا وسط تهاون ومباركة غربية ضمنية ثم علنية جعلت المشهد يبدو حتميا في زمن جديد تقوده الأحزاب السياسية الإسلامية مما أوجد حالة من الإرباك الشديد لكل العالم الإسلامي والعربي خاصة.
حكم إسلامي بلا إسلام !! تبقى دول الشرق الأوسط والوطن العربي الخليج دائما تحت خطر (تصدير الثورة) باتجاهيه: الإيراني والإخواني، وقد يكون لكل اتجاه قوته واستمراريته كل على حساب الآخر أو معه، مما يتطلب استراتيجية جديدة، كما يجب أن تركز دول الخليج العربي على وسائل التحصين أكثر من وسائل المعالجة الأمنية ذاك أن هذه الدول بحاجة ماسة لطاقة أبنائها والأساس في هذه الحاجة هو حماية مواطنيها من السقوط في براثن ووسائل هذه القوى الغريبة والرهيبة بقدراتها وإمكاناتها الظلامية والتمويهية، لذا فإن شعار دول الخليج العربي يجب أن يكون «تحصين شعوبنا من خطر الفكر الهدام» وهذا الفكر حتى الآن هو ذو صيغ إسلامية طائفية وعقائدية خطيرة، وعليه يجب أن تكون هناك رؤى أيديولوجية واستراتيجية لكل مناحي الحياة وبالأخص منها التعليم والإعلام وأساليب عمل وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في هذه الدول، علينا أن لا نغفل أبدا عن مسؤولية تحصين أبنائنا ضد الانحراف عن وسطية الدين الإسلامي الحنيف، ولا يجب أن ننسى أن الحركات المتشددة لن تجد لها أرضا خصبة لفترة ليست بالقصيرة بعد فشلها في التجارب التاريخية للحكم في دول عديدة في الشرق الأوسط الذي فشلت جميع الحركات السياسية ذات الصبغة الطائفية في بسط نفوذها وسيطرتها المطلقة على مقدرات الأمور.
لقد أثبتت التجربة أن إدارة الدولة بعيدة كل البعد عن التنظيم الديني فالإخوان المسلمون في مصر فشلوا في علاقاتهم الخارجية وكذلك في إدارة الدولة داخليا وهناك تجارب أخرى في ليبيا وسوريا والعراق جاءت كنتاج لما سمي بالفوضى الخلاقة واستغلال الدين والإسلام كأداة لتحقيق أجندات خارجية تستهدف الأمة والدين بذات الوقت، كما أثبتت الدول التي تستثمر الإسلام سياسيا فشلها في ممارسات عزلتها عن محيطها الإقليمي والدولي وفرّقت شعوبها لاتجاهات فكرية وسياسية شتى.
* الاتحاد