صورة تعبيرية
فى هذه اللحظة لا توجد قضية أخطر من قضية تأجيج الانقسامات والصراعات المذهبية الطائفية عبر أرض العرب كلها ودون استثناء.
فى هذه الأجواء المجنونة لا يمكن الحديث عن وحدة وطنية أو سلم أهلى، ولا عن تضامن على مستوى الأمة، بل ولا حتى عن أى نوع من التنمية السياسية والاقتصادية، إذ سيصعب إحراز تقدُّم معقول نحو حل أية مشكلة بدون تعرية جسد الطائفية ومن ثم إطفاء حريقها.
لعل أحد المداخل لعمليتى التعرية والإطفاء هو إبراز سخف وعبثية الصراعات الطائفية، وذلك من خلال الرجوع لتاريخ فواجع الانقسامات والخلافات الفقهية المذهبية حتى يتبين لجيل الأمة الحالى حقيقة ما جرى فى الماضى الذى يراد له، بانتهازية شيطانية، أن يحكم الحاضر والمستقبل.
لنتمعَّن، باختصار شديد، فى بعض ما يكشف التاريخ بالنسبة للعلاقات التى وجدت فيما بين المذاهب من جهة أو فيما بين مدارس المذهب الواحد من جهة أخرى.
1- لقد اعتدى أصحاب المذاهب على أصحاب المذاهب الأخرى بمجرد تحقق الغلبة لهم وتربُّعهم على كرسى سلطان الحكم.
فمثلما اعتدى الحكم الأموى أو العباسى السنى على الشيعة اعتدى الحكم البويهى أو الفاطمى الشيعيين على أهل السنة.
لم يستطع نظام حكم أصحاب مذهب أن يتعامل بعدل وإنصاف وتسامح مع رعايا مذهب آخر.
2- فمثلما أخرج غوغاء أهل السنة فى دمشق رجلا متشيعاً كأبى عبدالرحمن النسائى من المسجد وداسوه حتى الموت لأنه تجرأ ومس بكلامه الخليفة الأموى، ومثلما كان الجنود السنة فى القاهرة يسألون المارة فى مصر عمن يكون خالهم، فإذا لم يقولوا إن خالهم هو معاوية ينهالوا عليهم بالضرب المبرح، فإن الفاطميين فى مصر عزلوا بتعسُّف كل أصحاب السنة من المناصب الحكومية وضربوا بريئاً فى مصر لأنهم وجدوا عنده الموطئ للإمام مالك وقتلوا آخر لأنه أعلن حبه لأبى بكر وعمر.
3 وهل يحتاج الإنسان إلى التذكير باعتداءات أصحاب مذهب المعتزلة السنى على أهل السنة الآخرين بسبب ما عرف بفتنة ومحنة خلق القرآن؟ ألم يجر قتل أهل السنة الذين رفضوا القول بخلق القرآن؟ ثم لما زال حكم المأمون والمعتصم، اللَّذين كانا يحميان المعتزلة، جاء دور أهل السنة المظلومين للتنكيل بأهل الاعتزال الظالمين ؟
4- وفيما بين أهل السنة أنفسهم ألم يقم أتباع الإمام أحمد بن حنبل بالاعتداء على أصحاب المذهب الشافعى، بل ومنع دفن الفقية السنى ابن جرير الطبرى لأنه لم يعترف بابن حنبل كفقيه وإنما اعتبره كمحدث ؟
5- لكن كل ذلك لا يقاس بما فعله الخوارج، باسم الإسلام، الذين أحلُّوا قتل المسلمين الذين لا يعتنقون مذهبهم، ولا يقاس بما فعله القرامطة الإسماعيليون الذين قتلوا ونهبوا حجاج بيت الله وملأوا بجثثهم بئر زمزم.
هل نعجب إذن إذ نرى فى أيامنا الحالية تصُّرفات الجهاديين التكفيريين، الخوارج والقرامطة الجدد، وهم فى سكرة القتل والنهب؟
تلك أمثلة قليلة فى قائمة طويلة من الصًّراعات والاعتداءات والظلم والقتل فى عالم المذاهب الإسلامية. جميع ذلك تم باسم الإسلام، والإسلام بريء من كل ذلك.
•••
فلقد تداخلت الصراعات القبلية والأطماع لاقتسام الغنائم مع الادعاءات بأحقية خلافة رسول الله من هذه الجهة أو تلك، مع الكثير من تزمٌّت المفاهيم الفقهية القابلة فى الواقع للأخذ والعطاء، مع ثقافة مجتمعية لا تمارس الحوار العقلانى الموضوعى ولا تعطى قيمة كبيرة للتسامح والاستماع للآخر.. لقد تداخل كل ذلك ليجعل من الاختلافات فى وجهات النظر الاجتهادية الفقهية، والتى كان من المفروض أن تكون مصدر رحمة لأتباع دين الإسلام، خلافات مغموسة بالأعيب وعنف ودموية السياسة والملك العضوض والسلطان المستبد.
وإذن فإنها الثقافة المليئة بالكثير من النواقص، وإنًّه الحكم القبلى الاستبدادى الذى لا يعترف بحقوق وقانون وضوابط قيمية، وليس الدين ولا حتى الفقه بذاته.
نقول ذلك لأن نفس التاريخ الموجع يخبرنا، بأنه عكس ما يعتقده البعض من المتعصبين فإن كبار علماء الفقه نهلوا الكثير من بعضهم البعض.
فالإمام أبو حنيفة السنى أخذ عن الإمام زيد الشيعى والذى بدوره قد أخذ عن واصل بن عطاء المعتزلي.
والإمام مالك بن أنس السنى كان تلميذاً للإمام جعفر الصادق الشيعي.
ويقال إن الإمام البخارى، أحد أهم مراجع أهل السنُّة، كان يجالس عمران بن خطان الخوارجى ليتلقى عنه الحديث ويدونه.
وكان الحسن البصرى، شيخ السنة، معجباً بعمرو بن عبيد، رأس المعتزلة، ومادحا لورعه وحكمته.
وهناك من يؤكَّد بأن الخوارج والأباضية هم أول من جمع الأحاديث النبوية. وإذن فمثلما كان هناك صراع عبثى كان هناك تلاقح خلاق.
من هنا استنتج أحد الباحثين الموضوعيين المرحوم الدكتور مصفطى الشكعة فى كتابه الرُّزين المعنون «إسلام بلا مذاهب» بأن ما يفرق جماعة (مذهبية) عن جماعة أخرى لا يزيد عما يحدث من خلاف بين أئمة المذهب الواحد.
مثل هكذا استنتاج يحتاج إلى جهة فقهية إسلامية مجتمعية مستقلة، وليس فقهية مذهبية، تضمٌ علماء فقه من جميع المذاهب والمدارس، لتعرى أخطاء وخطايا الماضى من جهة ولتظهر للجيل العربى الحاضر بأن ما يراه ويسمعه عن الصراع المذهبى الطائفى لا يمتُ بصلة لدين الإسلام ولا لفقه مذاهبة، وإنما هو صراع سياسى انتهازى يؤججه ويستعمله بعض مجانين السياسة وبعض متخلفى الفقه من أجل أغراض أنانية تكمن وراء أقنعة كاذبة.
•••
ما يحتاج شباب ثورات وحراكات الربيع العربى التركيز عليه هو حلُّ إشكاليتى الثقافة المجتمعية والسياسية. فالأولى بنواقصها والثانية بانتهازيتها يساهمان فى تحكُّم الماضى فى الحاضر والتحضير لإشعال نيران المستقبل.
* بقلم - د علي محمد فخرو.
شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995.
* عنوان الموضوع الأصلي : تعرية الطائفية لإطفاء حريقها
نقلا عن "الشروق" المصرية