لماذا أحرقت كتب العالم إبن رشد : إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد

2014-05-17 15:08
لماذا أحرقت كتب العالم إبن رشد : إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد
شبوة برس - متابعات

 

هل طرح ابن رشد مشروعا لإصلاح الفكر الديني؟

قراءة - عبدالله المطيري

   

العنوان: إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد.

المؤلف: إدريس حمّادي.

الناشر: المركز الثقافي العربي.

سنة النشر: 2007 عدد الصفحات: 166صفحة.

 

* لا يزال فكر ابن رشد يثير الكثير من التفكير والجدل والبحث من جهات متعددة، فمن جهة تنجز دراسات وأبحاث وتعقد مؤتمرات عن ابن رشد الأوروبي، أي عن فلسفة ابن رشد التي اشتغلت في السياق الأوروبي ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي. ومن جهة أخرى يستحضر ابن رشد في الأفق العربي المعاصر بوصفه مشاركا في قضايا أساسية اليوم، قضايا العقل العربي ومشاريع الحداثة والتنوير وقضايا إصلاح الفكر الديني ومسائل حرية التفكير وعلاقة الفكر بالسياسة والمجتمع. كما يساهم في نقاش قضايا المرأة وثقافة الحوار. أذكر هنا دراسات الدكتور معجب الزهراني التي قدّم فيها قراءة معاصرة للخطاب الرشدي تجاه المرأة كما للحوارية عند فيلسوف قرطبة وقاضيها.

 

في النصف الأول من هذا العام صدر للمكتبة العربية، فيما أعلم، كتابان حديثان عن ابن رشد يمثل كل واحد منهما جانبا من اشتغال الخطاب الرشدي اليوم.

الكتاب الأول، كتابنا اليوم، يدرس إصلاح الفكر من منظور ابن رشد، هذا الدرس يأتي في إطار السؤال الملحّ اليوم عن إصلاح الفكر الديني المعاصر. هذا الفكر في أمس الحاجة إلى الإصلاح بعد أن ركدت مياهه قرونا طويلة وأصبح اليوم عقبة في وجه الحياة المعاصرة. الكتاب الثاني، كتابنا الأسبوع المقبل، عن ابن رشد كما اشتغل في أوروبا: كتاب "أثر ابن رشد في فلسفة القرون الوسطى" للدكتورة زينب محمود الخضيري.

 

لماذا ابن رشد؟

يعتقد الكثير من الفاعلين في الساحة الفكرية العربية أن أي مشروع تنوير أو نهضة لا يستحضر تجربة "من الداخل" أي فكرا عربيا فإنه لن يكتب له النجاح وعلى إثر هذه الفكرة جرت محاولات متعددة في البحث عن نموذج من التراث العربي يمكن استلهامه والاستناد على مقولاته الفكرية في تأسيس حراك تنويري عربي. لم تكن الخيارات بتلك الكثرة والتنوع بل كانت محصورة في الفكر الفلسفي تقريبا وبشكل ما في بعض المقولات المعتزلية، إلا أن الشخصية التي حازت على الاهتمام والعناية الأكبرين هي شخصية وفكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد. وذلك لعدة أسباب لعل من أهمها كما أرى ما يلي:

 

السبب الأول: أن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وأساسية. والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي اللذين قد تلبسا بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري فيما العقل البرهاني بقي الأقل تفعيلا وبالتالي فهو بشكل كبير متخلص من التراكمات المعيقة ويبدو بكرا قادرا على العمل بطاقة وحيوية الشباب كما أنه قادر على العمل بفاعلية مع العقل العلمي ولن يقف عائقا أمامه.

 

السبب الثاني: أن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوَجِس الداخلي فهو الفقيه الكبير والقاضي المعتبر وصاحب المتن الفقهي الموثوق على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما أنه قد رسم طريقا آمنة تسير فيها الشريعة آمنة بجانب أختها الحكمة "الفلسفة" بوصفهما حقين والحق لا يعارض الحق. وابن رشد، كما يقول الجابري، هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه.

 

السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته ونجاحه في البيئة الأوروبية من خلال الرشدية اللاتينية.

يذكر بول كيرتس أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة نيويورك (بافلو) ضمن مداخلته التي كانت بعنوان "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير" والمقدمة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ترعاه الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية عن "ابن رشد والتنوير" المنعقد سنة 1994م في القاهرة. يذكر أن ابن رشد أو أفيروس كما ينطق باللاتينية قد أسهم في تطوير التنوير في القرنين السابع والثامن عشر. وهو من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة في ذلك الوقت ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210و 1215وأعيد تدريسها في عام 1231ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة وذلك بقرار من البابا. ومن المعلوم عند مؤرخي الفكر الأوربي في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلائية (المدرسية) ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية. فهو إذن فكر مجرّب وأثبت فاعليته.

 

السبب الرابع: أن شخصية ابن رشد مغلّفة بتراجيديا مثيرة جدا للمثقف العربي فهو يتماهى معها وكأن الظروف هي هي لم تتغير فالاضطهاد باسم الدين والسياسة لا يزال المثقف العربي يعانيه وإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى أليسانة، وهي بلدة لليهود، وأمر ألا يُخرج منها، فإن أحوال المثقفين العرب ليست بالأحسن والأفضل.

 

الكتاب:

كما يرى إدريس حمّادي فإن مشروع ابن رشد لإصلاح الفكر الديني (الإسلامي) يتكون من ثلاثة أبعاد رئيسة. الأول بعد عقدي تناول فيه الخطاب والمخاطب من الزاوية النظرية. البعد الثاني بعد تشريعي "فقهي" تناول فيه الخطاب والمخاطب من الزاوية العملية. البعد الثالث بعد أصولي تناول فيه الخطاب والمخاطب في مستوياتهما الدلالية والفكرية. يعني الخطاب فيما هو نص فيه أو مجمل أو ظاهر أو مؤول، والمخاطب من حيث هو مجتهد أو مقلد أو فقيه ناقل فقط. وبناء على هذه الأبعاد جاء تقسيم الكتاب موافقا لها فبعد المقدمة يأتي الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول: المشروع الإصلاحي في جانبه الأصولي. الباب الثاني: المشروع الإصلاحي في جانبه العقدي. والباب الثالث: المشروع الإصلاحي في جانبه الفقهي.

 

في المقدمة حدد حمّادي ثلاثة منطلقات لمشروع ابن رشد الإصلاحي: منطلق الأسباب، ومنطلق الأغراض، ومنطلق الوسائل. أما أسباب مشروع ابن رشد فهي، كما يحدد حمّادي ثلاثة: أولا: غياب المقاصد الشرعية في فكر مختلف الفرق الإسلامية التي ضلت وأضلت. ثانيا: غياب الاجتهاد عند الفقهاء الذين يشبههم ابن رشد بالعوام. السبب الثالث هو الخلط بين المعرفية الفقهية في بعدها الكلي وبين المعرفة التي تعطي القوانين والأحوال التي تسدد الذهن نحو الصواب. أما أغراض مشروع ابن رشد الاصلاحي فتتنوع بحسب المعارف الشرعية. فالغرض في الجانب العقدي هو وحدة الأمة في عقيدتها. كان هذا الغرض ظاهرا في كتابيه "فصل المقال" و "الكشف عن مناهج الأدلة". أما الغرض من الجانب الفقهي فهو "الإرشاد إلى الطريق الأمثل الكفيل بإعداد مجتهدين قادرين على تبيّن مصالح الأمة في حاضرها ومستقبلها. يظهر هذا جليّا في كتابة" بداية المجتهد ونهاية المقتصد". أما الغرض من إصلاح جانب الأصول "أصول الفقه" فهو إعطاء القوانين والأحوال التي يسدد بها الذهن نحو الصواب في المعرفتين معا: النظرية والعملية.

 

الجانب الأصولي:

يبدأ حمّادي باستعراض المشروع الرشدي من جانبه الأصولي، أصول الفقه. التي هي جملة القواعد والقوانين التي تساعد المجتهد على استنتاج الأحكام الشرعية. وابن رشد يعطي أهمية كبيرة لهذه المعرفة كون "نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار (الفرجار الهندسي) والمسطرة إلى الحس فيما لا يؤمن أن يغلط فيه".

يكمن إصلاح ابن رشد في هذا العلم، كما يقدّم حمّادي، في تخليصه من الكثير من الإضافات عليه فإن كان الأصوليون قد قسّموا هذا العلم إلى: الثمرة، والمثمر، والمستثمر، وطريقة الاستثمار فإن ابن رشد رأى أن الجزء الذي يمثل أصول الفقه هو "طريقة الاستثمار" أي طريقة استنتاج الأحكام. أما الأحكام وشروط الاجتهاد والمجتهد فمكانها الفقه لا أصوله.

كما أن ابن رشد داخل هذا القسم قد سلك طريقا مختلفا عن الأصوليين فقد قسم الخطاب إلى منطوق ومفهوم فقط. هذا منهج متبع عند ابن رشد: منهج التبسيط والتخلص من الحشو. الشريعة بسيطة ولكن تعقيدات المتكلمين والفقهاء وابتعادها عن هدف الشريعة جعل من الأمور معقدة أكثر ومسببة للنزاعات وضاعت وسط هذا كله الحكمة منها. يلخص حمادي إصلاح ابن رشد لأصول الفقه كالتالي "إن علم أصول الفقه الذي يبدو شائكا ومتشعّبا عند الفقهاء والمتكلمين، تنقبض له النفس عند السماع، قد جعله ابن رشد سهل المنال فقد حصره في قطب واحد بدلا من أربعة ثم اختصره في المنطوق والمفهوم. ثم هو يرى أن دلالة المنطوق والمفهوم على الأحكام تشبه أن تكون منحصرة في الظاهر والمؤول، إذ النص في الخطاب، منطوقا ومفهوما، معوز جدا، والمجمل ليس ببيان بإجماع، ولا يثبت به حكم أصلا".

 

الجانب العقدي:

الباب الثاني يخصصه حمّادي للجانب العقدي، الجانب الذي كان الجدل حوله أيام ابن رشد على أشدّه فقد تناحرت الفرق الإسلامية وكفّر بعضها بعضا: المعتزلة والأشاعرة والصوفية والحشوية وغيرها من الفرق.

في خضم هذا الصراع ضاع المقصود الشرعي الأصلي الذي هو كما يرى ابن رشد "تعليم العلم الحق، والعمل الحق.

والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى، وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي".

يرى حمادي، استخلاصا من كتابي "فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلة" أن مشروع ابن رشد لإصلاح العقيدة يقوم على ركيزتين الأولى: تأكيده على أن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول وأن الظاهر فرض الجمهور، والمؤول فرض العلماء، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويلاتهم للجمهور، ولا أن يثبتوا في الكتب المتداولة بين أيديهم، وأن الباحث متى غاب عن فكره هذا ضل لا محالة عن الطريق.

أما الركيزة الثانية فتتجلى في استحضاره المقصد الشرعي سواء منه ما كان مقصدا في ذاته أو ما كان وسيلة مبلّغة إليه.

 

الجانب الفقهي:

مرجع هذا الباب الثالث هو كتاب ابن رشد الفقهي "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الذي يرى حمادي أن الإبداعات المؤصلة لابن رشد فيه تظهر معلمها في التالي:

أولا: التحرر من التمذهب فقد كان، كما يعبر احمد الطيب، "ينظر إلى المذاهب نظرة فوقية، أو نظرة من خارجها، مكنته من نقدها نقدا بناء، يعمّقها تارة، ويصوب اتجاهاتها تارة أخرى".

ثانيا: اتساع أفق تفكيره من خلال موازنته بين النص والعقل لاستخلاص أكبر ما يمكن من الفوائد والأحكام.

تجاوز ابن رشد المذهب المالكي واختلف مع اجتهادات الصحابة والتابعين في تطبيق التعامل المباشر مع النص دون الوقوع في هيبة وهالة المتقدمين من المتكلمين والفقهاء.

ولعل هذه النقطة تكون إحدى أهم نقاط أي مشروع إصلاحي للفكر الديني اليوم.

 

من هنا يظهر مشروع ابن رشد الإصلاحي للفكر الإسلامي بوصفه متناغما مع رؤيته للدين أصلا وحدود عمله في الحياة حيث يمثل خطا مستقلا للوصول للحق في مجاراة لخط الحكمة "الفلسفة" التي تهدف إلى ذات الحق. ومن هنا كان الحفاظ على نقاء الدين في صورته الأولى وعدم إقحامه في كل شيء شرطا ضروريا لتحقيق مقاصده وأغراضه. ومن هنا يحقق الدين هدفه ويحقق العقل هدفه صحيح أن العقل آلة فهم الدين ولكن في حدود الدين وضمن أهدافه.

أما خارج الدين فللعقل أن يحلق كما يشاء بشرط أن يكون هدفه البحث عن الحق.

هنا برأيي تكمن رؤية ابن رشد لإصلاح الفكر الديني.

* جريدة الرياض

_________

 

* ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد فى مدينة قرطبة عاصمة الأندلس فى 1126 (520 هـ) لأسرة عريقة فى العلم والجاه، لا تطلب من اشتغالها بعلوم الفقه شيئا ماديا أو معنويا، لأنه لديها ما يكفيها منهما. ولا كانت هذه الأسرة بالطبع بحاجة إلى عطايا أو نفحات الأمراء والسلاطين. درس ابن رشد فى هذه المدينة الزاخرة بالمعارف وعلوم العصر فى اللغة والفقه والطب والطبيعيات والرياضيات والفلسفة.

وكانت فلسفة اليونان قد انتقلت بالترجمة من أثينا إلى الإسكندرية، وأخذت تؤثر باتجاهها العقلى المحض على الفلسفة الإسلامية، مبتعدة عن الاتجاه الروحى الذى نتج من ردود فعله ظهور التصوف.

وتحت تأثير هذا الوضع الجديد بفضل الترجمة عن اليونانية والسيريانية غدت الإسكندرية منذ جالينوس (130- 200 م) ملتقى العلماء والفلاسفة من كل البلاد، وأقرب للمدن الأوربية منها للعواصم العربية كبغداد والقاهرة ودمشق. ويذكر عن ابن رشد أيضا أنه كان يحظ عن ظهر قلب شعر المتنبى وأبى تمام، ويكثر فى أحاديثه من الاستشهاد به.

التقى ابن رشد فى عام 1164 م بالأمير أبى يعقوب المنصور بالله ثانى خلفاء دولة الموحدين الذى طلب منه ترجمة وشرح فلسفة أرسطو (384- 322 ق. م) فى عبارة واضحة تخلو من القلق الذى تفيض به الترجمات السابقة، حتى تكون هذه الفلسفة سهلة الفهم للناطقين بالضاد. وقد شغل ابن رشد منصب القضاء فى كل من أشبيلية فى 1169 م، ثم فى قرطبة فى 1171. وتمتع فى هذا المنصب بسيرة طيبة نالت جهد كل من سمع بها وتحدث عنها، لما اتسمت به أخلاقه من تقوى وهدوء، وما دلت عليه أحكامه من كره للظلم والظالمين. ولسيرته الطيبة قربه إليه المنصور بالله - بعد أن أصبح خليفة- كما قربه الخليفة المعتصم بالله الكندى (800- 870).

ويبدو أن ابن رشد تخوف من هذا التقريب فى دار السلطان، ولم يطمئن إليه، لأنه كان فوق كل ما يأمل.

وصدق حدسه، إذ لم يلبث الخليفة المنصور بالله أن غضب عليه عندما أشيع عن ابن رشد أن إشتغاله بالفلسفة وعلوم الأوائل ينطوى على مخالفة لعقائد المؤمنين التى تسلم بماهو فوق قياسات العقل والمنطق، وفيه مروق عن الدين.

وتمكن الوشاة من اطلاع الخليفة فى قرطبة على أوراق لابن رشد بخط يده عن أساطير اليونان وفلسفتهم، انتزعت من سياقها، وحشرت فيها كلمات لم يكتبها، تؤكد هذا الاتهام، ينعت فيها ابن رشد كوكب الزهرة بأنه أحد الآلهة، ويتراءى فيها عرض الفلسفة اليونانية كنصوص أو فصول غير سديدة لابن رشد، تعبر عن رأيه وفلسفته، لا عن الفلسفة اليونانية بصفته شارحا لها.

* الاهرام الرقمي