وقد وضعت حرب غزة أوزارها.. المصريون في مهمة استعادة باب المندب
*- شبوة برس – هاني مسهور
لقد عادت القاهرة إلى فلسفتها الأولى: أن الأمن لا يُدار من الداخل بل من الممرات التي تحدد مصير الداخل ومن يملك الممر يملك القرار والسيادة.
منذ توقيع اتفاق غزة المرحلي في قمة شرم الشيخ، بدا أن مصر تستعيد موقعها الطبيعي في خريطة الشرق الأوسط، لا بوصفها دولة وسيطة فحسب، بل قوة قائدة تعيد هندسة النظام العربي في زمنٍ جديد تتغير فيه الخرائط كما تتغير الولاءات. كانت القاهرة الحاضر الأكبر في قمة السلام، لكن حضورها الحقيقي لم يكن على طاولة التفاوض فحسب، بل في رسم موازين القوة لما بعد الحرب، وفي إعادة تعريف فلسفة “الأمن القومي العربي” التي كانت قد صاغتها في منتصف القرن الماضي بعد العدوان الثلاثي عام 1956.
عندما قرر الزعيم المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، أدرك أن السيادة ليست شعارًا يُرفع في الخطب، بل هندسة جغرافية تتجاوز حدود الدولة. كان يعلم أن الدفاع عن السويس لا يتحقق بالمدافع فقط، بل بتحرير البحر الذي يفتح طريقها نحو العالم. ومن هنا نظر إلى عدن، التي كانت يومها تحت الاستعمار البريطاني، بوصفها الخاصرة الجنوبية للأمن القومي المصري. لذلك دعم ناصر الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني ضد الوجود البريطاني، رغم الخلافات مع الجبهة الوطنية في الجنوب العربي، لأن الهدف كان أسمى: هزيمة الإمبراطورية التي جاءت لتكسر قناة السويس.
وفي الرابع عشر من تشرين الأول – أكتوبر عام 1963 اندلعت الثورة في عدن، وبعد أربع سنوات فقط كانت بريطانيا تجر أذيال الهزيمة وتنسحب، معلنة في 30 تشرين الثاني – نوفمبر 1967 الاستقلال الأول لجنوب اليمن. ذلك الحدث لم يكن انتصارًا للجنوبيين فقط، بل انتصارًا لمبدأ ناصري صار جزءًا من العقيدة السياسية المصرية: أن الدفاع عن القاهرة يبدأ من البحر الأحمر، وأن من يملك باب المندب يملك القدرة على حماية السويس. ولذلك حين اندلعت حرب أكتوبر 1973، كان للجنوب اليمني حضور فاعل في واحدة من أكثر العمليات البحرية تأثيرًا في تاريخ العرب الحديث، إذ شارك الجيش الجنوبي بفعالية إلى جانب القوات المصرية في إغلاق مضيق باب المندب ومنع الإمدادات الإسرائيلية القادمة من القرن الإفريقي. كانت تلك اللحظة ذروة التقاء الفكر بالفعل، حين تحولت الفلسفة إلى خطة عسكرية، وحين أصبح البحر الأحمر بحيرة عربية خالصة.
بعد أكثر من نصف قرن يبدو أن مصر تعود إلى الفكرة ذاتها لكن بأدوات أكثر ذكاءً وحداثة وتتحرك بهدوء على رقعة جغرافية واسعة تعيد فيها صياغة دورها كضامن للملاحة الدولية
واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يبدو أن مصر تعود إلى الفكرة ذاتها لكن بأدوات أكثر ذكاءً وحداثة. فمنذ إعلانها أن خسائر قناة السويس تجاوزت تسعة مليارات دولار جراء هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وهي تتحرك بهدوء على رقعة جغرافية واسعة تعيد فيها صياغة دورها كضامن للملاحة الدولية. لم يكن التصريح عن الخسائر مجرد بيان اقتصادي، بل رسالة سياسية تقول إن أمن التجارة العالمية لا يمكن أن يُدار من دون القاهرة، وأن من يهدد البحر الأحمر يهدد الأمن القومي المصري نفسه.
لكن الأعمق من ذلك أن مصر تمارس الآن ضغطًا جيوسياسيًا مزدوجًا على جبهتين متقابلتين: إثيوبيا في الشرق، والحوثيين في الجنوب. ففي الوقت الذي تمد فيه أديس أبابا نفوذها نحو البحر عبر اتفاقات مع “أرض الصومال” وموانئ بربرة وسواكن، تتحرك القاهرة عبر طوقٍ بحري يبدأ من اتفاق التعاون الدفاعي مع الصومال، مرورًا بانضمامها إلى التحالف الدولي لدعم قوات خفر السواحل في جنوب اليمن، وصولًا إلى تفعيل مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن. إنها عودة مصر الكبرى إلى البحرين معًا: من السويس إلى باب المندب.
وبينما تتحدث واشنطن عن “الممر الهندي – الشرق الأوسط – الأوروبي” كبديل جزئي عن قناة السويس، تقول القاهرة للعالم بوضوح: لن يكون هناك ممر بديل إلا من خلالنا، ولن يكون هناك استقرار في البحر الأحمر إلا عبر مشاركتنا.
تبرز عدن والمكلا كمحطات في الاستراتيجية الجديدة التي توحد بين الجغرافيا والأمن، حيث بدأت القاهرة تنسق مع الرياض وأبوظبي لدعم القوى الجنوبية الفاعلة، وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثل القوى السياسية الأكثر شرعية سياسياً والأكثر تماسكاً على طول الساحل الجنوبي والغربي لليمن. دعم هذه القوة ليس دعماً يمنياً بحتاً، بل جزء من رؤية عربية متكاملة لتحويل الجنوب العربي إلى قاعدة إقليمية لأمن البحر الأحمر، ولإنهاء حالة الفوضى التي صنعها الحوثي منذ انقلابه في صنعاء عام 2014.
القاهرة، التي أدركت مبكرًا أن الحوثي ليس مجرد تهديد يمني بل أداة إيرانية لإرباك التجارة العالمية، تتحرك الآن مع شركائها الخليجيين والدوليين نحو إعادة صياغة مبدأ “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب” بحيث يشمل الإرهاب الحوثي بصفته تهديدًا ملاحياً واقتصادياً لا يقل خطورة عن داعش أو القاعدة. وهنا يبرز الدور المرتقب للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يستعد للعب أدوار سياسية وعسكرية متقدمة ضمن هذا التحالف. فبعد أن أثبت كفاءته الميدانية في محاربة التنظيمات المتطرفة في أبين وشبوة، واستعاد الاستقرار في عدن، بدأ الانتقالي يتحول إلى شريك عربي ودولي في مشروع أوسع لتأمين البحر الأحمر وإنهاء الانقلاب الحوثي في الشمال.
مصر لا تدافع عن اقتصادها فقط، بل تعيد تعريف القوة العربية في زمن الانكماش. فبين سد النهضة وهجمات الحوثيين، تبني القاهرة خطًّا استراتيجيًا واحدًا يقول: إن البحر هو طريقنا إلى السيادة، والجنوب هو بوابتنا إلى المستقبل
فالمعادلة الجديدة التي تتشكل الآن تقوم على ثلاث ركائز: أولاً، مصر بوصفها القوة الضامنة لأمن الممرات والمحرّك السياسي للتحالف الدولي في البحر الأحمر. ثانيًا، التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات الذي يملك أدوات التمويل والتأثير الميداني. ثالثًا، القوى الجنوبية التي تمثل القوة التنفيذية على الأرض والمفتاح المحلي لأي معادلة استقرار في جنوب اليمن والمنطقة.
هذه الرؤية لا تنفصل عن فلسفة القاهرة في إدارة التوازنات، فهي لا تسعى إلى التصعيد المباشر، بل إلى بناء شبكة ردع ذكية تربط البحر بالنهر، بحيث تجد إثيوبيا نفسها محاطة بنفوذ مصري من البحرين، وتجد إيران أن أذرعها في اليمن تواجه طوقًا عربيًا متماسكًا. وبينما تمضي أديس أبابا في مشاريعها المائية والبحرية، تواجه اليوم واقعًا جديدًا بأن الممرات التي تحلم بها تمر عبر مناطق نفوذ مصري مباشر أو غير مباشر، وأن القاهرة تمتلك القدرة على جعل البحر الأحمر مجال ضغط لا مخرجًا آمناً.
وهكذا تتقاطع الملفات كلها من غزة إلى عدن، ومن سد النهضة إلى قناة السويس، ومن اتفاقات شرم الشيخ إلى التحالفات البحرية الجديدة. تتحرك مصر كما تتحرك الدول الكبرى حين تستشعر أن لحظتها التاريخية قد عادت. لا ترفع الصوت، لكنها تغيّر المعادلات. لا تُعلن الحرب، لكنها تُمسك بخطوطها. فكما واجه عبد الناصر الإمبراطورية البريطانية بتحرير عدن، تواجه مصر اليوم مشروع الهيمنة الإيرانية بتحرير البحر الأحمر من الميليشيات.
لقد عادت القاهرة إلى فلسفتها الأولى: أن الأمن لا يُدار من الداخل، بل من الممرات التي تحدد مصير الداخل. وهكذا، حين تتحدث اليوم عن خسائر قناة السويس، فهي لا تتحدث عن أرقام مالية، بل عن خريطة نفوذ، وعن هوية أمة ما زالت تعرف أن من يملك الممر يملك القرار.
مصر، في لحظة ما بعد غزة، لا تدافع عن اقتصادها فقط، بل تعيد تعريف القوة العربية في زمن الانكماش. فبين سد النهضة شمالًا وهجمات الحوثيين جنوبًا، تبني القاهرة خطًّا استراتيجيًا واحدًا يقول: إن البحر هو طريقنا إلى السيادة، والجنوب هو بوابتنا إلى المستقبل.
تبدو الهدنة اليمنية التي انتهت في أكتوبر 2022، والتي لم تتضح أطرافها ولا حتى الوسطاء فيها، مدخلاً مهمًا للمصريين. مدى قدرة القاهرة على تحريك الجمود هو الذي سيفتح أمامها قدرة الإمساك بالملف. ولديها أحد أهم الشركاء الصادقين وهي الإمارات التي نجحت نجاحًا باهرًا في الملف اليمني جنوبًا وشمالًا. عودة مركز الثقل إلى القاهرة تمثل بحد ذاتها فرصة أخرى لتصحيح توازنات جيوسياسية في الشرق الأوسط.
*- عن صحيفة العرب