عاد أبناء غزة إلى مدينتهم المثخنة بالجراح، فعانقتهم رائحة الموت قبل أن تلمس أقدامهم ترابها. وجدوا الركام بدلاً من البيوت، والصمت بدلاً من أصوات الأطفال، والدموع بدلاً من الضحكات.
لم تعد الشوارع تعرف أسماءها، فقد غمرها الغبار والدماء. أجساد الشهداء ما زالت تحت الأنقاض، وأرواحهم تحلّق في سماءٍ لم تعرف السكون منذ زمن.
لقد عادوا يحملون في قلوبهم الأمل، لكنهم صُدموا بواقعٍ يفوق الوصف. مدارس تحولت إلى مقابر، ومساجد دُمّرت فوق مآذنها، ومستشفيات لم تسلم من القصف. ومع ذلك، بقيت غزة شامخة، كجبلٍ يأبى الانحناء، وكروحٍ لا تُهزم مهما تكاثرت الجراح.
إن ما جرى في غزة ليس مجرد حرب، بل مجزرة إنسانية بصمتٍ دولي مخزٍ. العالم كله شاهد، لكنه لم يتحرك إلا ببعض بيانات الشجب والتنديد، بينما أمهات غزة يودعن أبناءهن بأكفٍّ ترتجف، وقلوبٍ لا تعرف إلا الصبر والإيمان.
ورغم كل هذا الدمار، فإن غزة تُعيد تعريف الكرامة من جديد. أهلها لم يسقطوا، ولم يرفعوا إلا راية الصمود. إنهم اليوم يبدأون من تحت الركام، يبنون حجراً فوق حجر، ويغرسون شجرةً في كل موضعٍ سالت فيه دمعة أو دم.
فيا أيها العالم، كفى صمتاً، وكفى تفرجاً على مأساةٍ لا تشبه سواها.
غزة لا تحتاج شفقةً، بل تحتاج عدلاً وإنصافاً. فالشعوب التي لا تُنصف المظلومين تُدان أمام التاريخ قبل أن تُدان أمام الله.
غزة اليوم ليست مدينة مهدمة، بل مدرسة في الصبر، ومحرابٌ للثبات، وصرخةٌ في وجه من باع ضميره.
وستبقى، بإذن الله، تنهض من تحت الرماد لتقول: ما زلتُ حيّة ما دام فيّ طفلٌ يتلو “لا إله إلا الله”.
رسالة تضامن من الكاتب:
من قلبي ومن قلوب كل الأحرار، أوجّه تحية إجلالٍ وإكبارٍ إلى أبناء غزة الأبطال، أولئك الذين يزرعون في وجه الدمار بذور الأمل، ويعلّمون العالم أن الكرامة لا تُشترى، وأن الإيمان يصنع المعجزات.
نحن معكم في كل نبضة وجع، وفي كل دعاءٍ يرفع إلى السماء. ما أصابكم ليس هزيمة، بل امتحانٌ لعظمة صبركم، وابتلاءٌ ليرى الله منكم الصادقين.
اصبروا وصابروا، فالنصر وإن تأخر، آتٍ لا محالة، فالله لا يخذل من قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
رحم الله شهداءكم، وشفى جرحاكم، وردّ عنكم الكرب والبلاء، وأبدلكم عن كل حجرٍ تهدّم بيتاً عامراً بالإيمان، وعن كل دمعةٍ فرحاً، وعن كل ألمٍ نصراً قريباً بإذن الله.
وستظل غزة، رغم الدمار، منارةً تضيء درب العزة للأمة كلها.