تُعرَّف الدولة في القانون الدولي وفق اتفاقية مونتفيديو لعام 1933م بأنها كيان يقوم على أربعة أركان: إقليم محدد، شعب دائم، حكومة فاعلة تبسط سيادتها على الإقليم، وقدرة على إقامة علاقات خارجية. وهو تعريف جاء امتدادًا لمبدأ معاهدة ويستفاليا 1648م التي أرست سيادة الدولة الوطنية وحقها في إدارة شؤونها الداخلية. ومن دون هذه الأركان لا يمكن الحديث عن دولة، حتى وإن توفرت مظاهر شكلية للحكم.
عند إسقاط هذه المعايير على اليمن، نجد أن صنعاء لم تعرف الدولة بهذا المفهوم. فالسلطة المركزية كانت عاجزة عبر التاريخ عن فرض سيادتها خارج أسوار العاصمة. وبمجرد أن يغادر المرء صنعاء أو المدن الكبرى كتعز والحديدة، يجد نفسه أمام أعراف وقوانين محلية لا صلة لها بالدستور أو بالقانون العام. وهكذا ارتبطت سلطة المركز بالجباية وتحصيل الخراج أيام الأئمة، ثم جمع الضرائب والسيطرة على الثروة في الجمهورية، أكثر من ارتباطها بمسؤوليات الدولة الحديثة.
منذ عهود الأئمة كان النفوذ موزعًا بين الشيوخ والقادة المحليين والعسكر الذين حكموا مناطقهم بمعزل عن قانون موحد. الإمام لم يهتم إلا بحصته من الخراج، تاركًا لكل متنفذ أن يسود بأعرافه. وبعد انقلاب سبتمبر 1962م وحتى مشروع الوحدة لم يتغير الجوهر: تبدلت الأسماء، لكن الواقع ظل كما هو، سلطة مركزية شكلية تتقاسم السيادة مع القوى النافذة في الأطراف.
أما بعد الوحدة عام 1990، فقد مثّل ابتلاع "اللادولة" في صنعاء لمشروع الدولة في عدن لحظة فارقة، إذ انتقلت ثروة الجنوب ومؤسساته إلى أيدي النافذين، فتحوّلوا إلى إقطاعيات تمتد من جزار القرية إلى سفراء العواصم الكبرى. وهكذا تعمق الانفصام بين الشكل والمضمون: دولة على الورق، وشبكات نفوذ على الأرض.
ثم جاء انقلاب الحوثيين، وهم جماعة لادولتية، ليطيح بما تبقى من سلطة ما قبلهم التي لم تكن دولة بالمعنى الحقيقي. وفرضوا على الناس مفهوم ما قبل الدولة. وتحت ضغط مواجهتهم، صُنعت في الخارج شرعية هشة لا تستند إلى مؤسسات أو عقد جامع. ربما امتلك الرئيس هادي وحده شرعية دستورية شكلية، ومعه حكومة بحاح قبل إقصائها، أما ما عدا ذلك فتحوّل إلى شرعنة متبادلة بقدر ما تقتضيه الحاجة والصفقات.
إن رموز الشرعية اليوم، الذين يتنقلون بين المنافي، لم يكونوا يومًا بناة دولة عندما كانوا في صنعاء. بل ساهموا في تكريس مبدأ النفوذ وتقاسم السيادة بدلًا من بناء المؤسسات وتوحيد القانون. فكيف لمن عجز عن إقامة نظام دولة وهو في عاصمة البلاد أن ينجح في تأسيسها وهو مشرّد في الخارج؟ لقد غدت الشرعية واجهة شكلية، بينما الواقع يؤكد أن طريق العودة إلى الدولة قد أُغلق منذ زمن، وأن حكومة المنفى ليست سوى محطة في طريق اللاعودة.