في خضم التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لم يعُد ممكناً أن يبقى الخطاب الديني حبيس زوايا التنظيمات، ولا أن تُختزل الشريعة إلى أداة استقطاب سياسي، أو واجهة دعوية تخدم مشاريع أيديولوجية مغلقة.
فقد تجاوز الواقع أسئلة الماضي، ولم تُعد التحديات الراهنة تُجابَه بشعارات «التمكين» أو «المحنة»، بل باجتهاد فقهي تأسيسي، يعيد قراءة النصوص في ضوء نسق وطني جامع، يُفعّل مقاصد الشريعة في خدمة بناء الدولة لا في فلك الجماعة أو الحزب
. لقد نشأ ما يُعرف بـ«فقه الجماعة» في كنف جماعات التوظيف الأيديولوجي للإسلام بجعله فقهاً تعبوياً، يقوم على منطق الغلبة لا البناء، ويشتغل على التحشيد لا الترشيد.. لإسناد مشروع تنظيمي مغلق، قائم على الولاء الحركي لا على الانتماء الوطني، همه ضبط الأتباع لا توجيه المجتمعات، وتفصيل الطاعة على مقاس القيادة، لا تحرير الإنسان من الجهل والخرافة والارتهان. وفي سياق كهذا، تحول الفقيه من مرشد للأمة إلى ناطق باسم الجماعة، ومن خبير في فقه الواقع إلى مروّج لخطاب وظيفي يخدم غاية حزبية ظرفية.
وعلى النقيض من ذلك، يقوم فقه الدولة، أو ما يمكن تسميته فقه البناء المؤسسي، على رؤية شاملة تجعل من الشريعة إطاراً تشريعياً عقلانياً لبناء العمران البشري، حيث تعد الدولة الوطنية الأفق الطبيعي لتحقيق مقاصد الإسلام الكبرى.
فالدولة الوطنية ليست عائقاً أمام الشريعة كما تُوهم بعض أدبيات التنظيمات، بل هي الحاضنة الأوسع لتحقيق كليات الشريعة: حفظ النفس والدين والعقل والمال والكرامة.. وهي بذلك تتجاوز المنطقَ الفئوي في النظر إلى الدين، كي تعيده إلى مداره الأصيل: مرجعية توجيهية للمجتمع بأسره لا لشريحة منه. ولا يعني الانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة تخلياً عن المرجعية الإسلامية، بل العكس تماماً، إنه تحرير لها من الارتهان الحزبي، وتخليصٌ لوظيفة الدين من التوظيف الدعوي المغشوش. فالدين ليس ملكاً تنظيمياً، ولا بوقاً دعائياً، بل هو رأسمال حضاري مشترك، لا يجوز اختطافه لصالح جماعة مهما ادّعت.
ومما أثبتته التجربة أن تديّن الجماعات لم يؤسّس مشروعاً حضارياً جامعاً، بل أنتج الانقسام، وكرّس الشحن الأيديولوجي، وأسّس لمنطق إقصائي يُكفّر المخالف ويصادر التعدد، ويعطّل إمكانات الإصلاح من داخل الدولة. وعليه، فما نحتاج إليه اليوم ليس اجترارَ اجتهادات متقادمة نشأت في زمن الاستضعاف، بل فقهاً وطنياً جديداً يستجيب لمتطلبات الدولة الحديثة، ويُعيد للفتوى اعتبارَها بوصفها توجيهاً عاماً لا توظيفاً مؤقتاً. ففقه الدولة لا يُجيب فقط عن الأسئلة، بل يصوغها من جديد: ما غاية التشريع؟ ما موقع المواطنة في البناء الفقهي؟ كيف نفعّل العدالة الاقتصادية؟ وكيف نوازن بين النظام والحرية، بين المصلحة الخاصة والصالح العام؟ وهي أسئلة تُجاب بمنهج السياسات الشرعية، والعقود الاجتماعية، والفقه المؤسسي الرصين.
إن زمن الاستعانة بالفقه لتبرير الانغلاق الذهني، أو لتغذية مشاعر الرفض والقطيعة مع الدولة والمجتمع، قد ولى. فالمواطنة اليوم هي قاعدة العقد السياسي، والمصلحة العامة هي مقصد الشرع في هذا العصر، والدولة الوطنية تظل الإطار الوحيد الممكن لتفعيل الشريعة، وتحقيق التنمية، وضمان السلم الأهلي. وكل فكر يرفض هذه الحقيقة، أو يصرّ على تجاهلها، إنما يعيد إنتاج العجز، ويكرّس فقهاً مؤجَّلاً لا يخدم حاجات الناس ولا يواجه تعقيدات العصر. لقد آن أوان استعادة الفقه من قبضة التنظيم، وتحريره من الارتباط الحزبي، وتأهيله ليكون علماً للعمران، لا أداة للتجييش.
نحتاج إلى تكوين فقيه جديد، يُدرك تعقيدات الواقع، ويشتغل بعقل المجتمع لا بعقل التنظيم، كما نحتاج إلى إصلاح المؤسسات الدينية لتفكر بمنطق الأمة لا بمنطق الجماعة، وإلى اجتهاد مؤسسي لا يكتفي بشرعية النص، بل يُراكم شرعية النظام العام، ويُؤسس لفقه الاستقرار والسلم والكرامة. لا الجماعة هي الأمة، ولا التنظيم هو الوطن، ولا البيعة تُغني عن الدستور.. ومن لا يرى في الدولة الوطنية إلا خصماً لعقيدته، فليعلم أن معركته ليست مع الواقع فقط، بل مع روح الشريعة نفسها.
*- د محمد البشاري
* نقلا عن صحيفة «الاتحاد»