هذا الموضوع هو محاولة لإزالة الفهم الخطأ لكلمة «عبد» في وصف علاقة الإنسان بربّه، إذ يَثقُل على البعض قبول هذا الوصف غير اللائق - على حد فهمهم - والذي يسيء للإنسان، وإن لم يصرحوا بذلك؛ لا سيما حديثو العهد بالإسلام.
وكما يقرّر علم اللسانيات، فإن الجانب المسؤول عن اللغة في مخ الإنسان - رغم فعاليته العالية جدًّا - يَتَّسِم بالكسل؛ فهو يأخذ المفردة الواردة إليه من العصب السمعي إلى أقرب معنى يتبادر إلى ذهنه ويبني عليه تصوراته. ومثال ذلك اسم الله «الصمد» إذ يظن الكثيرون أن المعنى آتٍ من الصمود، ولو فكر المخ الكسول وترك نظرته الضيقة، لأدرك أن المعنى مغاير لذلك تمامًا؛ فالكلمة تعني مَن يحتاجه جميع الخلق ويفزعون إليه ويسألونه، بينما هو لا يحتاج أحدًا.
وكذلك كلمة «عبد»، فبمجرد سماعها - دون التفريق بين طرفي العبودية - يَشعر المخ الكسول بالانقباض منها؛ لأنه صرفها فور سماعها إلى عبودية الإنسان للإنسان وقاس عليها عبودية الإنسان لرب الإنسان. بينما لو فكّر وتأمّل وعرف طرفي العبودية هنا حق المعرفة؛ لاختلف المعنى تمامًا. وكما ورد في الأثر: «ليس في الآخرة من الدنيا شيء إلا الأسماء»، فلا يجب فهم أي وصف غيبي كفهم الأمور الدنيوية.
ومن هذا المنطلق، فإن الإنسان بحاجة إلى عبد - أو أجير في أيامنا هذه - لأنه لا يتقن صنع كل أموره، بينما ربّ العزة والجلال ليس بحاجة لأحد. وإن من حكمة الله وإتقانه للخلق، أنْ حافظ على التوازن بين احتياجات البشر، بحيث جعل بعضهم مفتقرًا إلى بعض، وإلّا فسدت الحياة؛ فالثريّ لا يحسن العمل بيديه، والفقير الصانع الماهر بحاجة إلى المال. قال سبحانه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون﴾[الزخرف: 32].
وكلمة «سُخريًّا» من التسخير، بينما في موضع آخر من القرآن ترد كلمة «سِخرِّيًّا» من السُّخرِيَة والاستهزاء.
كما أن في عبودية البشر للبشر نوعًا من الإذلال والدونية والمقام المحتقَر، بينما العبودية لله تعني: العزّة، والكرامة، والسموّ، والرِّفعة، والتكريم، والتعالي عن الدنيء من الأفعال والأقوال، وإسجاد الملائكة لأساس هذا العنصر البشري. كذلك فإن العبودية بين البشر تقتضي التقييد التام والكامل لحرية العبد، فهو في النهاية مجرد متاع وشيء وسلعة. بينما العبودية لله تمنحك فضاءً رحبًا من الحرية المسؤولة في كل ما تريد، عدا ما أخل بحق الله تعالى من توحيد وطاعة أو ما أضرّ بك أو بالآخرين.
هذا وإن المتدبر للقرآن والمتأمِّل في مفرداته، يجد أنه لم يذكر مرةً واحدة كلمة «عبيد» إلا في الحديث عن الآخرة، بينما ذكر كلمة «عباد» في الدنيا، وهذا من مظاهر تفرُّد النص القرآني وعلوِّه وتَسَامِيه حتى على اللغة المتعارف عليها. فالعباد أحرار والعبيد ليسوا كذلك، والإنسان في الحياة حرّ مختار وفي الآخرة لا حرية له ولا اختيار.
ودِقَّةُ القرآن غير المتناهية في اختيار الكلمة المناسبة في المكان المناسب، هو أمرٌ مُشاهَد ومعلوم لمن منح القرآن من وقته ولو جزءًا ضئيلًا ثم قام بالاستجابة لربه الذي أهاب بالمؤمنين- وغير المؤمنين - أن يتدبروا كتابه، وهو بالمناسبة نوع من التحدي لغير المؤمنين، حيث قال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[النساء: 82].
*- "من كتابي الصادر حديثًا (ولا تنقضي عجائبه)"