قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين) البقرة 47.
وقد يظن البعض أن هذه الآية تعني أن بني إسرائيل هم أفضل الخلق. والحقيقة أن "التفضيل" لا يعني "الأفضلية". ومثال ذلك أن تقوم باختيار شخصٍ ما - من أقاربك أو أصحابك - ثم تقوم بإعطائه ما لم تُعطِ غيرَه، فأنت بهذا قد "فَضَّلْتَه" ولكن يا ترى هل هو "الأفضل"؟ وهل هو أهلٌ لأنْ يُفَضَّل؟ هذا ما يحتمل أمرين: أن يكون أهلًا لذلك أو أن يكون جاحدًا مخيِّبًا للظنّ خائنًا بشكلٍ صادمٍ لك.
وهذه الصورة تقرِّبُ ما فعله الله مع بني إسرائيل – مع علمه التامّ سبحانه بما سيفعلونه – فأعطاهم، ومنحهم، ويسَّر لهم، وأنجاهم من عدوهم، وأرسل لهم أحد أولي العزم من رسله الكرام، وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وإن يَعُدُّوا نعمة الله لا يحصوها. وقد اتضح لاحقًا – لهم ولغيرهم لا لله تعالى – أنهم ليسوا أَكْفاءً لذلك التفضيل، وأنهم أسوأ خلق الله على الإطلاق.
لقد جعلتُ ما فات مقدمةً لما أريد أن أقوله عن الفهم الخطإِ الذي يخرج به الكثيرون من الرجال – بل والنساء - من قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء 34. إذ يظنون أن كلمة "فَضَّلَ" تعني أن الرجل "أفضل" من المرأة، وقبل ذلك يظنون أن كلمة "قَوَّام" تعني السيد المتحكِّم الذي لا يُرَدُّ له قول ولا يُسأل عمَّا يفعل.
والصواب هو أن كلمة "قَوَّام" – من الناحية الصرفية – صيغة مبالغة من الفعل "قام"، وهذا الفعل يعني: الخدمة، والرعاية، والاهتمام، والإنفاق، وغير ذلك من مستلزمات الفعل "قام". ونحن نقول – مثلًا -: "قام فلانٌ على أبيه حتى خرج من المستشفى"، أي إنه كان بمثابة الخادم له، فما بالكم بصيغة المبالغة، والتي تُضاعِف معنى الفعل مرات ومرات؟
وإذا تفكَّرنا في الآية الكريمة؛ نجد أن التفضيل هو إعطاء الرجل – سواءٌ كان أهلًا لذلك أم لا – القدرة على أن يكون خادمًا للمرأة، بمعنى أن الله قد كلَّفه برعاية وصيانة المرأة وكِفايتها أمورَها، وزوَّده بما يحتاجه للقيام بذلك؛ من تركيب جسدي، وصبر، وقوَّة، وتحمُّل، وقدرة على مجادلة الرجال والانغماس في معترك الحياة ومُصطَرَعها، وهو أمرٌ لا تستطيعه المرأة.
وأما استئناف الحديث الإلهي بعد ذِكر سبب التكليف بالقوامة والخدمة والرعاية، وهو ما لدى الرجل من قدرات لا توجد عند المرأة، وأعني ذِكْرَ الله لأمر مترتب على الامر الأول، وهو إنفاق المال؛ فليس إنفاق الرجل على المرأة أمرًا يَمُنُّ به عليها، بل هو واجبٌ عليه، فكما أن الله جعله قائمًا بل قوَّامًا، فإن من نتائج التفضيل الذي هو منح الرجل قدرات تخوِّلُه المال وتُكسِبُه إياه، تعزيزَ معنى القوامة الذي هو الخدمة.
وهكذا اتضح أن الله - تعالى - لم يجعل الرجل أفضل من المرأة في شيء، ولم يجعل المرأة أفضل من الرجل في شيء؛ فلكلٍّ منهما دوره الذي إن قام به أحسن قيام؛ صَفَت الحياة للاثنين، وإن "نَشَز" أحدهما على الآخر، أي: عَلَا ورأي نفسه الأحسن والأَمْيَز؛ حدث ما يهدم تلك العلاقة الإنسانية النبيلة، وما يَفصِم عُرَى الالتحام الجميل المتمثل في التكامل بين الطرفين.