القرآن كتاب هداية ونبراس حياة، وليس تمائم وتعويذات من العين والمس

2024-06-19 07:03
القرآن كتاب هداية ونبراس حياة، وليس تمائم وتعويذات من العين والمس
شبوه برس - خـاص - الرياض

 

مربع الوهم (العين، المسّ، تأثير السحر، تفسير الأحلام)

الضلع الأول: (العين)

 

*- شبوة برس – فيصل بن ماجد السبيعي

إنه لَمِمَّا يحزنني أشد الحزن، ويسوئني أشد السوء، هو السيطرة العظيمة التي تتسلط على عقول المسلمين بما يسمى (العين)، بشكل يبعث على الشفقة على تلك العقول التي ذهبت نهبًا لهذه الخرافة البشرية الموغلة في القدم. والعجيب أن هذه الخرافة عندما تسلّطت، لم تكن العقول الضعيفة وحدها هي الضحية، وإلا لهان الأمر ولقلنا إن العلم والثقافة والاطلاع، كل ذلك سيؤدي يومًا ما إلى انحسار تلك الأسطورة المزمنة واقتلاع أعشاشها من بين تلافيف تلك الأدمغة. غير أن الطامة والقارعة والفاقرة، هي أن من بين أوساط المتعلمين والمثقفين من هو مصاب بهذا الرُّهاب، والرُّهاب في علم النفس هو "الخوف من الأشياء التي لا مسوِّغ للخوف منها".

 

وحيث إن الدين الإسلامي دين واقعي وعقلانيّ، وبعيد كل البعد عن الخرافات والأساطير والأباطيل؛ فقد كان حريًّا بأتباعه من المتعلمين أن يكونوا أقل الناس تأثُّرًا بأساطير الأمم الغابرة، كالكلدانيين والفراعنة واليونان وغيرهم، إذ تسربت إلينا تلك الخرافة من أساطير تلك الأمم.

 

ولكن الشعوب المتحضرة المعاصرة قد نبذت تلك الخرافة، فلم يعد يلتفت إليها أحد سوى قلة قليلة من المؤمنين بالخرافات؛ بينما تعملقت تلك الأكذوبة وتعاظمت في عالمنا العربي المسلم تعاظُمًا شديدًا، وساهم في ذلك النفخ – مع شديد الألم والأسف – علماء دين ومثقفون ونُخَب، كان من المَظنُونُ بهم أن يقفوا جدارًا صلبًا وحصنًا منيعًا يحمي المجتمع من الغرق في أوحال الخرافات والأساطير. وعندما تجادل أحدًا من المسلمين – مثقفين وغير مثقفين - وتقول له إن العين خرافة لا حقيقة لها؛ فإنك تجده يثور عليك ويرمي في وجهك بضعة أحاديث مكذوبة، زاعمًا أن رسولنا الأعظم كان من المؤمنين بتلك الخرافة وأنه حذر منها.

 

ومن تلك المرويات (ابن ماجه، 3509) ما ذُكر من أن رجلًا رأى رجلًا وهو يستحمّ، فقام الرجل الآخر وتلفظ بكلمات وكأنه إله كليّ القدرة يقول للشيء كن فيكون، وكانت تلك الكلمات – كما تذكر الرواية – مجرد تعجُّب من جمال لون بشرة المستحِمّ، فما كان من المستحِمّ إلا أن سقط مغشيًّا عليه، وهو أمر عادي قد يحدث لأي أحد لأي سبب وفي أي مكان. فكان من البَدَهِيّ أن يبادر القوم إلى علاج الرجل بما كان متوفرًا لديهم من طرق العلاج؛ إلا أنهم رفعوا أمر سقوط الرجل إلى المقام النبوي الشريف، ولا أدري ما دخل النبي بالطبّ، وهو الذي أمرنا بالتداوي ولم يأمرنا بأن نقرأ القرآن على أنفسنا عندما نمرض، وهي خرافة أخرى تسمى الرقية "الشرعية".

 

فالقرآن كتاب هداية ونبراس حياة، وليس تمائم وتعويذات تُتلى على المرضى، والرسول الأعظم في حياته الشريفة كلها لم يجمع المرضى ويتلو عليهم القرآن كما يفعل الرُّقاة اليوم، فمن أين جاؤوا بذلك؟! وما هو مستندهم الشرعي؟! ومن الذي قام بتعيين الآيات المخصصة للرقية؟! وهناك الكثير من الشبهات تدور حول هذه التجارة الرائجة في بلاد قوم جاء الإسلام ليحرر عقولهم؛ فأبوا إلا إخضاعها لاستعباد الدجاجلة والمشعوذين، جاعلين منا الشعوب الوحيدة في العالم أجمع التي توجد فيها مهنة الرقية كوسيلة كسب مشروع.

 

وعندما حمل القوم صاحبهم المغشيَّ عليه، وأصبحوا في الحضرة النبوية الشريفة؛ قالوا إن ما حصل كذا وكذا، وزعموا أن النبي غضب وقال إن الرجل الآخر كاد يقتل المستحِمّ!! ثم أَمَرَ النبيُّ – وانظروا إلى القذارة هنا وحاشا النبي ذلك – أن يغسل الرجل الأول "أعضاءه التناسلية" والتي عُبِّرَ عنها في الرواية بــ (داخِلَةِ الإِزار) وأن تُصَبَّ تلك المياه المقزّزة على الرجل المصاب، وعندها، وبطريقة عجائبية، أفاق الرجل وأصبح مُعَافًى. واستنادًا إلى هذه الرواية، يقوم البعض إلى اليوم بشرب بقايا شراب مَن يظنونه عائنًا، وقد يطلبون منه أن يبصق عليهم، وهو إنما يبصق على عقولهم الضعيفة.

 

وسأكتفي بهذه الرواية وأنتقل إلى النور المبين والنبراس العظيم والكتاب المحفوظ والذكر الحكيم، ألا وهو قرآننا المجيد؛ لكي أعرض هذه الخرافة عليه، فلا يمكن أن يترك الله عباده نهبًا لهذه الأسطورة ذات التأثير المدمِّر دون أن يشير إليها ولو إيماءً أو إلماحًا.

 

إن القرآن المعظَّم لم يذكر الإصابة بالعين ألبتَّةَ ولو حتى بمجرد الإشارة، بيد أن المهووسين بالعين زعموا أن القرآن عندما وصف نظرات الكفار إلى الرسول بالنظرات الحاقدة التي تكاد تُسقِطُ المنظورَ إليه أرضًا؛ فقد أقرَّ خرافة العين!! ولا أعلم هل يعرف أولئك القوم مبادئ اللغة العربية، ومدلولات الفعل "كاد" أم لا، ولا أعلم كيف تحوّل وصف القرآن لشعور بالحقد والغلّ والحسد إلى وصف لخرافة ساقطة!! والآية المشار إليها بالطبع هي قوله تعالى: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُون إِنَّهُ لَمَجْنُون) القلم 52.

 

وبمناسبة ذكر الحسد، فقد استند أولئك القوم إلى أن الحسد المذكور في سورة الفلق هو الإصابة بالعين، رغم أن القرآن في مواطن كثيرة يذكر الحسد بمعناه المعروف لدى الجميع، وهو الشعور بالحقد على كل ذي النعمة من بعض النفوس المريضة، وتمنِّي زوالها، والعمل على إيذاء المحسود باليد واللسان، وهما السلاحان الأوحدان للإنسان، ولا دخل لخرافة العين في ذلك على الإطلاق.

 

 كما يزعمون – وزعمهم هنا كثير - دون تفكير ولا تمحيص عند ذكرهم لطلب النبي يعقوب عليه السلام من بَنِيه عند دخولهم مصر ألّا يدخلوا من باب واحد وأن يتفرقوا، وذلك بقوله الذي ذكره القرآن: (يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَة) يوسف 67، أن يعقوب كان يخاف عليهم العين!! ما أجرأهم على الله الذي ذكر - في الآية التالية لهذه الآية - أن هذا أمرٌ خاص في نفس يعقوب لا يعلمه إلا الله، قال سبحانه: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) يوسف 68. ولكن تسلُّط الخرافة على العقل يحجبه عن رؤية الحقيقة، وتصور له الأمور على غير صورتها.

 

ووالله إن قلبي لَيَكادُ يتفطّر حزنًا على شباب كالزهور الندية، وعقول ممتلئة ذكاءً وألمعيّة، وأُسَرٍ تعيش عيشة هنيّة، وغيرهم ممن أنعم الله عليهم بالسعادة الدنيوية؛ تتهاوى حيواتهم، وتتبعثر طموحاتهم، وتتكسّر نفوسهم على صخور الوهم القاتل لخرافة العين. بل إن هناك من خالفوا أمر ربهم القائل: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى 11، وتجاهَلوا توجيه نبيهم الكريم الذي قال: "إنّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يَرى أثَرَ نِعمَتِه على عبدِه"، وقاموا بتعليم أولادهم الكذب؛ حيث يوصونهم إذا سألهم أحد هل نجحوا بتفوق أن يقولوا لا بل رسبنا، وتكتم الحامل خبر حملها عن الناس مخافة هذا الوهم، وغير ذلك من الطوامّ.

 

فوجدتُ لزامًا عَلَيَّ، وبما تحتمه أمانة القلم، أن أساهم ولو بجهد ضئيل في محاربة هذه الخرافة المدمِّرة لأقول: إن الله تعالى لم يجعل للإنسان سلطة على أخيه الأنسان إلا باللسان واليد فقط، ولم يُعطِ أي إنسان القدرة على التحكُّم في عقول الآخرين وأجسادهم بطريقة خارقة تشبه المعجزات، بحيث يكفي مجرد النظر أو الانفعال النفسي أو التمتمة لإحداث أضرار جسيمة في النفوس والعقول والأجساد، بل وحتى الحيوانات والممتلكات.

 

ثم إننا نتساءل: منذ عشرات السنين وإلى اليوم وهناك مجلات مختصة بالأثرياء تعرض رفاهيتهم الخيالية؛ من قصور وطائرات خاصة ويُخُوت وأرقام خيالية لحجم ممتلكاتهم، ومع ذلك لم يُصَبْ أحدُهم بسوء ممَّن يُزعَم أنهم عائنون. وبانتشار التلفاز ظهر على شاشته ممثلون وممثلات في غاية الأناقة والجمال، ومع ذلك لم يستطع العائنون المفلسون النيل منهم ولو بمغرز إبرة. واليوم، تنتشر وسائل التواصل الاجتماعي، وفيها استعراض كثيف جدًّا لحياة البذخ والترف لدى الكثيرين؛ حيث يصورون بيوتهم المزخرفة، وأثاثهم الفاخر، وسياراتهم الفارهة، ورحلاتهم السياحية الحالمة، بل حتى أطفالهم الذين تبدو عليهم نَضرَة النعيم. وهم يفعلون ذلك ليلَ نهارَ، ولم نُحِسَّ من العائنين من أحدٍ ولم نسمع لهم رِكْزًا!! وإن قيل إنهم قد حصَّنُوا أنفسهم بالأذكار، فنقول وماذا عن غير المسلمين منهم؟!!

 

 والعجيب أن هناك المئات بل الآلاف من الأقاصيص والحكايا التي تشبه خرافات ألف ليلة وليلة تُروى في المجالس، ويستمع إليها ذوو العقول النيّرة، ثم يطأطئون رؤوسهم مستعيذين بالله من هذا الشر المستطير، دون أدنى محاولة للثورة على هذه الفضيحة المدويّة للعقل البشري بَلْهَ الفكر الإسلامي النيِّر.

 

وإذا ما أمعنت النظر في تلك الأساطير وجدت أكثرها أكاذيبَ مختلقة، وبعضها محض صُدَف قد تحدث في أي وقت، ولكن – وهذا الأمر مهم جدًّا – من تسيطر عليه خرافة العين فإنه يعزو - دون وعي منه - جميع الشرور والنكبات والكوارث إلى تلك الخرافة المهيمنة عليه، وهذا معروف في علم النفس تحت مسمى "جنون الارتياب".

 

ويجب أن يَعِيَ الجميع، أن جميع الأعراض التي تصيب مَن يُزعَم أنهم تعرَّضوا للعين الشريرة – والسحر والمسّ - هي أمراض جسدية ونفسية معروفة لدى الأطباء ولها علاجُها، ولا دخل للقرآن فيها؛ فالقرآن شفاءٌ من الكفر والنفاق والشك، وليس شفاءً للأبدان كما أسلفنا، وقد جنى الرُّقاة المزعومون ثروات طائلة من عرق الكادحين المساكين الذين يأتونهم زحفًا، ويرتمون على عتباتهم طالبين منهم أن يبصقوا عليهم وأن يسقوهم ماءً مباركا بنفثاتهم المقدّسة، ويبيعوا عليهم الزيوت (المقروء عليها) بمبالغ تُثقل كواهل أولئك البائسين المحرومين من الصحة ومن العلم، وكفى بهما – إذا اجتمعا - خسرانًا مبينًا. ثم إنني أتعجب – إذا سايرناهم هنا – لماذا لا نقرأ نحن على الماء والزيت؟! هل ألسنتنا نجسة؟! هل نحن أعاجم لا نحسن قراءة القرآن؟! هل نحن كفرة فجرة لا يجوز لنا أن نتلو كلام الربّ وهم طاهرون مطهّرون تجري الآيات على ألسنتهم لتنساب تِريَاقًا يشفي العليل؟!

 

 يحب على المسلم أن يكون قويَّ النفس، شديد الثقة بأن الله لا يمكن أن يجعل جهوده التي بذلها للوصول إلى أعلى المراتب تتهاوى أمام نظرة من رجل سافل حاقد حقير، أو تمتمات تتلفظ بها عجوز شمطاء لعينة، فإذا كلُّ ما بناه يتهاوى حطامًا جرَّاء تلك النظرات المزعومة.

 

وإنني لأتساءل: ما دامت لدينا هذه الأسلحة الفتاكة؛ فلماذا لا نستخدمها ضد الأعداء؟! لماذا لا نحسم الحروب بنظرات من "السادة العائنين"؟! وقد قام كاتب هذه السطور عدة مرات بتحدٍّ شديد لبعضِ ممّن يُزعَم أنهم عائنون، وذلك مقابل مبلغ مالي كبير يتقاضونه حالَ إصابتهم لي بالعين، وإلى الآن ومنذ سنوات طويلة، لم ينجح أحد.

 

وأختم بلفت النظر إلى مسألة مهمة، وهي عدم وجود حدّ على القاتل بالعين، وهو ما يقتضي أن الشريعة – وحاشاها - ناقصة، ولم يتنبه الشرع إلى هذه النقطة، وهو مدخل لأعداء الدين لاتهامه بعدم الشمولية كعادتهم في كل مناسبة. والصحيح أنه ليس ثَمَّ عين وليس ثَمَّ داعٍ لِسَنِّ القوانين ضد هذه الخرافة؛ إذ لا يمكن بتاتًا إيجاد دليل قاطع على أن ما أصاب المتضرر – بالمرض أو الموت – هو من تأثير العين، وهو ما يدل على كونه وهمًا، ولكنه إذا تُرك دون توعية الناس منه على نطاق واسع جدًّا؛ فسيبقى وهمًا مدمِّرًا يغتال عقول الناس، وإذا أُصيب الإنسان في عقله فَقَدَ كلّ شيء.

 

*- كاتب سعودي مهتم بالدراسات القرآنية - نقد الموروث - نقد الإلحاد - اللغة والأدب