إن القرآن العظيم كتاب محكم شديد الإحكام، وهو مسبوكٌ أَوثَقَ السَّبك بكلماته وحروفه وحركاته، وهو نَصٌّ مغلق لا يمكن المرور عبره وخلخلته، وهو حجة الله علينا، ولا حجة له تعالى علينا إلا به – ولله الحجة البالغة - ومن أجل ذلك فقد تعهّد بحفظه وصَدَقَنا عهده ووعده.
وما دام كذلك، فلا يُتَصَوَّرُ عقلًا ومنطقًا أن يحكم اللهُ فيه بشيء ثم يغير الحكم دون أن يذكر ذلك فيه، أو أن ينزل آية ثم يأمر بحذفها، وغير ذلك.
أما ما يدعيه المدعون من أن قولهم هذا يعضّده قولُ الحق تبارك وتعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) البقرة 106، فهو محض وهم؛ إذ إن الآية تعني نسخ آيات القرآن المتضمنّة لشرائع الإسلام لآيات الكتب السابقة المتضمنة لشرائع مَن أُنزِلَت إليهم. كإلغاء حد الرجم عند اليهود وتشريع الجلد للمسلمين، وهي عقوبة أرأف من الأولى؛ ولذلك فهي خيرٌ منها كما ذكرت الآية.
ومما يدل على أن هذه الآية لا علاقة لها بالنسخ المزعوم هو قوله: (أَوْ مِثْلِهَا) فلو كان المقصود آيات القرآن لأصبح من العبث أن يحذف الله آية ليأتي بمثلها!! تعالى الله عن ذلك. وأنا "أتحدَّى" القائلين بالنسخ أن يأتوا بمثال واحد - واحد فقط - على آية نُسِخَت ثم جِيءَ بمثلها، ولن يجدوا.
ومما يعضّد قولَنا هذا، هو النظر إلى الآية التي تسبق آية النسخ الواردة أعلاه – ومراعاة السياقات القرآنية من أهم أسس التدبر - وهي قوله سبحانه: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) البقرة 105، فكأن الله ردّ على أمنية أهل الكتاب وحسدهم، بأن قال لهم – جلّ شأنه – إنني سأكذّب أمنيتكم وسأنزل خيرًا من عندي على هذه الأمة، وهو القرآن العظيم الناسخ لآيات كتبكم، ثم ذكر النسخ في الآية التي تليها مباشرة.
ومثال نسخ الآية بمثلها - عندنا لا عندهم - هي عقوبة القاتل؛ فقد نُسخت الشريعة اليهودية بشريعة الإسلام، وجاء الإسلام بمثل ما في الشريعة اليهودية في حكم القاتل وهو الاقتصاص منه. وكذلك شريعة الصيام؛ فبالرغم من نسخ الإسلام لليهودية، إلا أن الله قد أمرنا بمثل ما أمرهم به، وهذا نجده في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) البقرة 183.
وشبيه بذلك قوله عز وجل: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَر) النحل 101، أي تبديل آيات الشرائع المنسوخة لا تبديل آيات القرآن.
وقبل أن أختم أقول: لقد حان الوقت لِتَبَنِّي نظرة معاصرة للقرآن العظيم، وعدم تجميده في تفسيرات السلف التي هي آراؤهم لا أقوال الرسول.
وختامًا، فإنَّ مَن رَدَّ عليَّ بقوله: من أنت يا هذا حتى تقول ما قلت؟! فسأردّ عليه بقوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم) يوسف 76. فإن طَلَبَ مني أن أتعلّم مِمَّن يُسَمَّون بالعلماء مستدلًّا بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) النحل 43، فسأتهمه بأنه يقرأ ولا يفهم؛ لأن معنى الآية - كما يقتضي السياق - هو قول الرسول ما معناه: يا من كذبتموني واستنكرتم أن يبعث الله بشرًا رسولًا، اسألوا أهل التوراة والإنجيل يخبروكم بأن الله قد بعث قبلي رسلًا من البشر.
*- فيصل بن ماجد السبيعي