ليس صحيحا أنّا كنا في الظلام، وأنقذتنا ديمقراطية الوحدة والحرية من بعدها، ولم نكن جوعى لينقذنا الريال اليمني، ولم نكن نعيش في خرائب ليُمن علينا بتشييد الفنادق والفلل الخاصة، ولم نكن كفارا لنهتدي بفضلها إلى الإسلام.
ليس كل ما يتردد عن تعاستنا من قبلها صحيحاً، كنا أفضل حالا، وإلا فلتتفكروا لم قد يجعل الناس من علم دولة ما قبل الوحدة رمزا يرفضون به ما نقره كلنا من ظلم اليوم؟!
بعد 23 عاماً مما يفترض بكونه تداخلاً قد حصل بعد الوحدة على صعيد التجربة الإنسانية، من المفجع أن تمتد التصورات والتخيلات المغلوطة عن الحياة في الجنوب إلى اليوم دون أن تتغير ولا بقدر طفيف حتى ، النظرة الخالية من الواقعية والمستحقرة في الغالب لكل ما كان سائدا في الجنوب، بقيت جامدة على حالها عند كثر، وهذا بالتحديد تفسير ممكن لاستمرار النهج ذاته من الانتهاكات، مرورا بالخطاب البعيد عن الواقع، إلى التفضل بالحلول القافزة عليه، على كل ما يفترض أنها تغيرات وتقلبات سياسية قد حصلت.
أعرف بدور التخلف والعصبية والتضليل الممنهج، لكن ما أستغربه هو وصولي إلى قناعة بالحاجة إلى أن أكتب ببساطة مفصلة عن أجزاء من ماضينا مجهولة، وأخرى من طموحاتنا متجاهلة، أكتب لدون أصحاب الضمائر الراكدة، أكتب للأحياء ممن قد يضلون بفعل الجهل الطريق.
فلم العجز عن فهمنا؟ ولم لا نقبل بفهمهم؟
في جزء كبير منه هو جهل بحقيقة ما كان، جهل مصطنع يذمون عليه، بالتالي جهل بطبيعة نظرتنا في الجنوب إليه، وقصور في نظرتهم من حيث هم، أحد لم يأتِ على نفسه هناك ليتزحزح ناظرا إلى الصورة من موقعنا أو من موقع النزاهة على الأقل، ولكنهم يغمضون أعينهم، ويتبعون ما تمليه عليهم حسابات عمياء لمصالح تُدعى لهم، بعيدة عن كل منفعة.
صحيح أن الحال لم تكن مثالية، لكن ما نَحِنّ إليه يمكن أن يختصر بـ"الدولة المدنية"، بمشروع كان يؤمن به نظام الحكم، ويعمل على تطويره وإحقاقه، لكن الأهم أن الناس لمسوا هذا، وشعروا بالانتماء إليه، وعلى كل ما علق في الأذهان باقتصار أسلوب عيشنا على جزئية التناحر السياسي، فإن هامشاً من التعايش ننتهجه في حياتنا قل نظيره، لنبدأ بأن أُعدد لكم أنه في منطقتنا وحسب، توجد كنيسة ومعبد للبينيان وآخر للفرس وثالث لليهود ورابع للهندوس، هذا غير مساجد البهرة والشيعة، وبالطبع أخرى للصوفية والسنة باتجاهاتهم المتعددة، شيء من هذا لم يمس منذ ما بعد الاستقلال، من بقي منهم كان له حقه في أداء عباداته، وكانت الناس تصلي وتصوم وتحج وتحفظ القرآن بطبيعية، على عكس ما يصور، وحتى يهود الشمال ومضطهدوه الهاربون ليس في عدن وحسب، بل وفي كل الجنوب، أكرموا وحفظت لهم الحقوق؛ هذا عنّا قبل أن نعرفكم، وهو في الغالب ما تجهلونه.
ما تجهلونه عنا أيضا أن نسبة مدمني الخمور كانت في تراجع منذ ما بعد الاستقلال، وعلى عكس ما يصور أيضا، وطبعا لا مخدرات بالمرة، كما أن الأمانة والعفة، أو ما يصفه الناس بطهارة النفس كانت هي الحال العام. مجتمع تعمه الأخلاق، ويحترم الحريات الشخصية، لدرجة تأمن معها أن تغادر لفترة تاركا محلك مفتوحا، أو أن تسافر شابة لوحدها من أقصى البلاد إلى أقصاها. كانت الناس أقرب إلى فطرة الإسلام مما هم عليه اليوم، كانوا خيرين وخلوقين في بيئة مجتمعية آمنة، فحيثما تظهر العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة يعتقد الناس بأسباب أفضل للحياة تبعدهم عن اقتراف المساوئ.
كان الناس سواسية في كل تفصيل من تفاصيل الحياة، لم تترك الدولة رعيتها لفاقة تدفعهم إلى مد اليد للسرقة أو التسول، وكانت تنصف لهم الحقوق، وتراعي آدميتهم، لدرجة لم يبقَ معها راشد بلا عمل، أو بعمل ينتقص من كرامته كالإجارة أو في الخدمة في البيوت.
كانت دولة دقيقة وصارمة، وأذكر مثالا لذلك أنه حدث في البنك المركزي أن جُمعت طبعة من الدينار بتسلسل معين جاوزت عمرها الافتراضي لإتلافها، وبطيش مد أحد المشرفين في اللجنة المسؤولة يده، ودس في جيبه ديناراً واحدا فقط من جمع ما أتلفوه لاحقا، أنفقه بعدها على وجبة في مطعم ما، ليعود الدينار إلى البنك في دورته الطبيعية بعد مدة، فيُعرف بأمر الاختلاس، ويحقق مع اللجنة، فيعترف المشرف بغلطته، ويقال من عمله. والشاهد أن الدولة علمت بأمر دينار واحد في غير موضعه!
لا زواج دون الـ18، والأمية محيت عن الوجود، وفرص التعليم واسعة وعادلة، وكذا الرعاية الصحية مجانية.
مصانع ومزارع ودولة هيبة، مع سلبيات تُعدد ولا نقرها، لكن تفكروا لمرة، ما الذي يمكن أن نحمد الوحدة عليه، وقد تلاشت كل إيجابيات تجربتنا، وكان لكل سلبية رافقتها امتداد مشوه أكثر اليوم.
ليرد التناقض في الفهمين، إلى أننا حين نُفصل طموحاتنا نستند على مجمل ما عشناه، فتضحيتنا تكون في سبيل حياة هي أرقى من الحاضر، وأرقى مما كان قبله، ولكن على الجهة المقابلة، حيث يقف وعي الشمال متهالكا، فإن المنّ بحلول مجزوءةٍ مشروع، فهو أفضل ما قد وصلوا بتجربتهم المتعسرة إليه.