من نهاية الحرب العالمية الأولى وظهور الدول الوطنية في المنطقة العربية برزت متلازمة التربص بكينونة الدولة عبر جماعات الإسلام السياسي. ولعل المتتبع لنشأة جماعة «الإخوان» في مصر على يد حسن البنا عام 1928 سيرى بوضوح اعتماد تلك الجماعات على هذه المنهجية، التي تتعامل مع الدولة كخصم مباشر على اعتبار موضوعي.
فالدولة الوطنية تلغي فكرة الدولة الإسلامية الجامعة سواء أكانت سنية أم شيعية، فكلاهما يهدفان لإلغاء الحدود الوطنية للدول، وإقامة دولة الخلافة أو الإمامة بحسب المعتقد المذهبي لكل طائفة من الطوائف.
لطالما كانت وستظل جماعات الإسلام السياسي تنشط في الفراغات الشاغرة بالجهل وتفشي الأمية، وهو ما فطنت له مبكراً فكرست فيه أفكارها التي تعتبر أن الدولة الوطنية بدستورها وقوانينها وأنظمتها، هي دولة كافرة بحسب تعريفها لمفهوم النظم الديمقراطية والعلمانية، فهي ترى حصرية الحكم في رموزها الدينية، وعليه تم تفسير الآيات القرآنية ووظفت الأحاديث النبوية سواء صحيحة السند أو موضوعة لتلائم هذا النهج، الذي يبارز الدولة ويناكفها في مناهضة مفتوحة لم تتوقف ذات فترة أو تهدأ في مرحلة من المراحل.
بعد ثورة 23 يوليو 1952 المصرية، خاض الزعيم جمال عبدالناصر المواجهة الصريحة ليس مع جماعة الإخوان فحسب، بل مع جوهر عقيدتها، فلقد كان حاسماً في تطبيق نظم الدولة الوطنية كما يجب أن تكون الدولة. فالدولة هي وطن لكافة المواطنين بكل أديانهم وطوائفهم، الدستور يشتمل الجميع.
عند هذه النقطة بدأ صراع حول الهوية الوطنية، غير أن «الإخوان» اعتبروا أن خصمهم هو الوطن المصري، فظهرت الحملات الشنيعة بتكفير النظام وتفسيقه، بل وصل بهم الحال إلى اعتبار أن نكسة يونيو 1967 عقوبة إلهية نزلت بالنظام والدولة التي يرونها كافرة لأنها بحسب نظرتهم لا تطبق شرع الله، فهم يرون أنهم المكلفون من الله على البلاد والعباد.
حملة عبدالناصر ضد فكر الجماعة قابلها اصطناع للمظلومية، فروجوا أن النظم العربية هي نظم «ديكتاتورية قمعية باطشة»، وعبر العقود التالية كرست الجماعة مفاهيمها وعممتها على كل الأوطان، مما ساهم في ضعف الأداء العام سياسياً واقتصادياً على عدد كبير من الدول العربية، التي عاشت في متلازمة التربص بها حتى ظهرت الصحوة الإسلامية واستطاعت قوى الإسلام السياسي فرض رؤيتها المعتمة على الشعوب واستحكمت بعقولها فتعطلت العجلة الاقتصادية وغيرها من المناحي الأخرى لمثبطات كرستها تلكم القوى التي اعتقدت أن بإمكانها مع هبوب رياح ما سمي «الربيع العربي»، الانقضاض على سلطة الحكم. تلقت جماعة «الإخوان» ضربات قاسية في دول شمال أفريقيا والجنوب العربي، ولكنها مازالت تتمتع بنفوذها إلى جانب قوى إسلاموية أخرى في عدد آخر من الدول.
لقد بات مكشوفاً الغطاء عن حقيقة أن ضعف الدولة الوطنية بعناصرها القومية هي الرافعة القادرة على صيانة وتحصين البلدان، وهو ما يفسره الواقع السياسي الذي أدى بتدخل دول إقليمية في الشؤون الداخلية لدول عربية محورية كالعراق وسوريا وليبيا والشمال اليمني، وهي دول تعاني من التدخلات الإقليمية المباشرة. كلما ضعفت الدولة الوطنية بعمقها العروبي كانت عرضه للنهش فيها وفي كيانها السياسي، هذه قاعدة تستدرك من مآلات ما حل بالأوطان العربية وما تعاني منه.
فالبوابة الشرقية العربية هدمت كما هدمت البوابة الشمالية وكادت أن تهدم البوابة الجنوبية، لولا يقظة دولة الإمارات التي ساندت القوى الوطنية في عدن، كما ساندت من قبل ثورة الشعب المصري المجيدة في يونيو 2013.
اغتيال الدولة الوطنية سيظل مهدداً قائماً، ما لم تكن هنالك قطيعة سياسية جمعية من كل الدول العربية التي يجب عليها أن تمنع كلياً تيارات الإسلام السياسي من الحصول على فرص للنشاط، فلا يمكن لهذه التيارات أن تتحصن بقوانين الدولة لتغتال الدولة.
صحيفة الاتحاد