تتعقد الأزمة اليمنية وتدخل في مجاهيل عديدة بسبب غياب العقلانية السياسية لدى الأطراف المتصارعة وتمترس كل طرف وراء مشروعه حتى بعد أن أثبتت الأيام أن كل هذه المشاريع، عقيمة وشائخة وفي طريقها إلى الزوال والاضمحلال.
في هذه الظرفية التاريخية المعقدة، وفي ظل الفشل السياسي الكامل لكل أطراف العملية السياسية في اليمن، ومن خلال قراءة سريعة للمشهد السياسي، يمكن لكل متابع حصيف أن يقرأ عدداً من المستحيلات تفرض نفسها على كل الأطراف السياسية التي لا تقرأ المعطيات ولم تتعلم من فشل ستين سنة من الصراع والتنابذ والإلغاء المتواصل لكل مخالف ومحاولات ادعاء "بناء الدولة الحديثة" بأدوات وعقليات قديمة ومتآكلة وخائبة.
لن أسترسل طويلا في استعراض اللوحة السياسية الشائكة في اليمن، لكن ما يمكن تأكيده هنا هو أن كل الأطراف التي تتخفى وراء مفردات "الوطن" و"الشعب" و"الدولة" و"الجمهورية" و"الوحدة" و"التنمية" وغيرها من المفردات الفضفاضة، قد اشتركت جميعها في تدمير الوطن وتمزيق الشعب وتفكيك الوحدة وبيع الجمهورية والقضاء على الدولة ووأد التنمية ولم تتذكر هذه المفردات إلآ عندما وجدت نفسها معزولةً خارج المعادلة السياسية ومنبوذةً من قبل الشعب كله سواء تلك التي في السلطة وتتمترس وراء القوة البطش، أو تلك الهاربة التي تبحث عن غطاء سياسي تتدثر به لتدعي أنها هي الوطن والشعب والدولة.
وعودةً إلى المستحيلات البارزة على الساحة يمكن الإشارة إلى المستحيلات الأربعة التالية:
- المستحيل الأول استمرار الجماعة الحوثية في الهيمنة على مساحة وسكان الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) بمناهجيتها الراهنة سواء القائمة على القناعة الذاتية الخرقاء لدى قادتها أو تلك التي يمليها عليهم الولي الفقيه من طهران، هذا في الشمال، ناهيك عن الجنوب الذي تلقن فيها الحوثيون وحلفاؤهم دروسا قاسية في الهزيمة التي لا أتصور أنهم سينسونها بسهولة.
- المستحيل الثاني: القضاء على الجماعة الحوثية واستئصالها من الوجود، فالجماعة لم تظهر في 2004م عند ما ظهر حسين بدر الدين الحوثي ومزّق شهادة الدكتوراه في العلوم الدينية التي حصل عليها من إحدى الجامعات السودانية ليعتنق مبادئ الشيعة الأثني عشرية ومنها مبدأ ولاية الفقيه الذي جاء به الإمام الخميني في العام 1979م، ولا حتى مطلع الثمانينات عند تأسيس جماعة الشباب المؤمن، بل إن الدولة العميقة لهذه الجماعة كانت مرافقة للجمهورية العربية اليمنية منذ قيامها عام 1962م وظلت مختبئة تحت جلبابها حتى توفرت لها الظروف والمناخات الملائمة لتستعيد نَفَسَها، ففشل ثورة سبتمبر في بناء دولة مدنية بديلة عن الملكية الكهنوتية، لم يلغ العقلية الأمامية والعشائرية ونظرية التميز والاصطفاء الإلاهي من العقل والفكر والثقافة الشماليتين بل ظلتا كامنتين حتى حان وقت انبعاثهما من جديد.
وسيطول الحديث عن هذه القضية دون إهمال أو تجاهل الأدوار العظيمة لقوى الحداثة الفكرية والسياسية في الجمهورية العربية اليمنية، لكن استسلام غالبية الشعب الشمالي للجماعة الحوثية ومحدودية مقاومتها وحشد مئات الآلاف من المقاتلين للدفاع عن مشروعها يكشف أن الجمهورية لم تنجح في بناء الوعي الوطني المدني الحداثي المجتمعي الجمهوري الحقيقي.
- المستحيل الثالث: عودة الشرعية إلى صنعاء بتركيبتها وثقافة قياداتها الراهنة القائمة على وراثة المشروع الفاشل - مشروع الاستحواذ والهيمنة والجشع والعشوائية والسلب والنهب والعائلية والجهوية وإلغاء الآخر وتخوينه وتتفيهه وتكفيره، فهذه العقلية وهذه الثقافة لا تبنيان دولة ولا تحرران أرضا ولا تقيمان نظاما وهذه الشرعية لا تختلف عن شرعية عفاش ولا عن شرعية هادي وعلي محسن، ولا عن الجماعة الحوثية إلا بالتمظهر بالمدنية والتظاهر بالتحضر الزائف لاستدرار عطف المحيطين الإقليمي والدولي، وليس أدل على ذلك من حرب 8 سنوات كانت حصيلتها تسليم أكثر من 90% من أراضي الجمهورية العربية اليمنية، للجماعة الحوثية واضمحلال كل أشكال حضور دولة (الشرعية) من الجيش والأمن والإدارة إلى الخدمات والمرتبات الشهرية للموظفين والمتقاعدين.
- المستحيل الرابع: وهو إعادة الحياة إلى مسمى (الوحدة اليمنية) وهو لب موضوعنا هنا.
لكننا سنتوقف عنده في الجزء الثاني من هذا الحديث