الحوار الجنوبي والسلاطين

2022-05-01 12:53

 

قبيل ايام عقد لقاء بين حكام ولايات الجنوب العربي، الذين اختاروا العيش والاقامة في المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، وكان الحوار بمبادرة رائعة تبناها المجلس الانتقالي وشكل لهذا الحوار لجنة من شخصيات تتمتع بالخبرة والحصافة.

 

عقد اللقاء في مدينة جدة في منزل الشيخ فيصل قاسم المفلحي، شيخ ولاية المفلحي، وكان من ضمن الحضور في ذلك الملتقى العديد من حكام ولايات الجنوب، ومنهم على سبيل الذكر وليس الحصر السلطان اسكندر والامير حيدر شعفل بن علي شايف الاميري وتغيب لاسباب قاهرة السلطان نواف بن فضل العفيفي، وكان اللقاء مثمراً وإيجابياً وتخلله طرح بعض النقاط التي يمكن مناقشتها مستقبلاً.

 

وسبق وان نوه الكثيرون وشددوا على اهمية ان يشمل الحوار كل المكونات الجنوبية ، بما في ذلك سلاطين ولايات الجنوب العربي ومشايخ يافع العشرة الذين عاشوا في منفاهم الاختياري في المملكة العربية السعودية منذ الاستقلال  .

 

وعن حكام ولايات الجنوب ، فهم وان تم اقصائم من وطنهم الجنوبي فقد ظلت علاقاتهم وطيدة بوطنهم وقبائلهم ، على ان حكام ولايات الجنوب ورموزه القبلية كانوا من اخلص رجال الوطن، ومنهم من وقف بحزم ضد الاملاءآت البريطانية ولن ننسى مواقف السلطان محمد عيدروس والسلطان علي عبد الكريم بل وسلطان ولاية الفضلي احمد الفضلي  وامير الضالع  حيدرة ، والذي قارع بريطانيا العظمى

ثم آثر التنازل واللجوء بعدها للعيش في مدينة تعز.

 

وعن تاريخ الحوارات والمصالحات فتذكروا ان اعظم مصالحة وقعت في العصر الحديث ، كانت بين قبيلة الهوتو والتوتسي في رواندا ، ولقد كانت الجراحات غائرة والدم ينزف وبغزارة ، بعد ان فتك الهوتو باكثر من ٨٠٠ الف توتسي ، حتى وصلت الجثث الطافية الى مصر عبر نهر النيل .

 

كان ذلك في عام ٩٤ وبعد المصالحة الصادقة التي كرس لها الرئيس ( بوك كاغامه ) جهوده المخلصة نهضت روندا من بين الحرائق وبحيرات الدم وشمخت بعدها رواندا ،  اليوم تمثل اعظم نهضة في افريقيا . ومن اهم الملهمات في المصالحات ، التخلص من تصديق ( الرواية الواحدة)  فلكل حدث وجهان وقصتان .

 

وعودة الى عهد السلاطين في الجنوب فقد كان يمثل  وجودهم الفترة الذهبية  والرشد والاخلاص والسلام الاجتماعي  ، حيث عاش الجنوب يومها نهضته العلمية والادارية والزراعية ، وكان لو اتيح للوطن بقاء السلاطين لتحولت الجنوب الى دولة رفاه وسبقت في تطورها  بعض دول الخليج العربي .

 

ومرة اخرى وعن اهمية المصالحات فقد تصالحت روسيا مع قياصرتها العظماء واعيدت اسماء القياصرة الى المدن العظيمة التي شيدوها في روسيا ، بل ان رمز روسيا الاتحادية اليوم هو النسر القيصري ، ولان ( فلسفة الراوية الواحدة) امعنت في تشويه تاريخ القياصرة ، لذا علينا وبدورنا ان نعي هذه الحقيقة ،وان ما قيل عن سلاطين الجنوب كانت حجة المنتصر وفلسفة الرواية الواحدة .

 

تكمن اهمية المصالحات والحوارات التي دشنها المجلس الانتقالي ، تكمن اهميتها في انها تمثل (المصالحة مع الذاكرة) كما انها ترص الصفوف وترسخ التضامن وتزيل مشاعر الغبن الذي لحق بشخصيات وطنية مخلصة وامينة ، ولم يجد حكام الجنوب الاخيار من ينصفهم ويواسيهم في مصيبتهم وفواجعهم .

 

بدون الحوارات و المصالحات  تبقى جبهة الوطن سهلة الاختراق ، ولأدلل على ذلك ما وقع من نبذ واقصاء للشخصيات الجنوبية التي لجأت الى صنعاء بعد احداث ٨٦ م وبسبب ذلك الاقصاء فقد تحول ذلك الفريق في صنعاء  ضد اخوتهم في الجنوب في حرب ٩٤ م .

 

وتوسعة وعن الحوارات ، فقد كنت في حديث مع بعض الزملاء فتطرق البعض الى ان اعظم حوار مصالحة يتذكره التاريخ ، هو حوار الشمال والجنوب في  امريكا ، وذلك بعد ان وضعت الحرب الاهلية اوزارها  ، ذلك الحوار  الوطني الملهم افضى الى مصالحة وطنية دائمة ومنصفة وراسخة ومكنت تلك المصالحة امريكا من ان تسابق الزمن وتصبح دولة عظمى ومهابة .

 

هناك من نوه ايضاً بحوار ايجابي وملهم بين جبهة تحرير كولومبيا ( فارك ) والحكومة الكولومبية ، ومن خلال ذلك  الحوار الملهم ، ترسخت المصالحة  واستطاعت البلاد ان توقف الحرب الاهلية  التي ادمت واستنزفت الشعب الكولومبي وادت الى فناء اكثر من ٢٢٠ الف نسمة .

 

وعن الاقصاء والنبذ وتكريس ( فلسفة الرواية الواحدة)  ففي اعتقادي انه وبسبب الامعان في الاتهامات وتحميل حكم الأمامة في اليمن كل الاوزار ، ورفض الجمهوريون حتى انسانيا تحقيق وصية آخر ملوك اليمن ( البدر ) الذي اوصى ان يقبر في وطنه وليس في لندن ! فكان رفض دفنه في وطنه لدليل على رفض المصالحة مع الذاكرة .

 

لا غرابة في ذلك فقد كانت اعياد الجمهورية تشكل حملات تشويه وتجني وادانه لملوك اليمن ، وكأن النظام الجمهوري هو العدل والنقاء والنزاهة . على ان تلك الاتهامات وتلك التهجمات ولدت الانقسام فانهارات الجمهورية ، وهي اليوم  في قفص الاتهام . ومن نافلة القول ان الملكيين في اليمن ورغم ابتعادهم عن السياسة واختيارهم حياة المنافي بعد ثورة سبتمبر ، الا ان لهم من المتعاطفين الكثير وعلى امتداد اليمن ، وهنا تكمن اهمية التصالح مع الذاكرة ورأب الصدوع التي تتحول الى فوالق عظيمة  .

 

نعم نحتاج الى مصالحات مع الذاكرة ومع كل المكونات بمختلف مشاربها ، لنبني معا الوطن ، وتذكروا انه لولا تلك المصالحة بين جبهة تحرير ظفار والسلطان قابوس طيب الله ثراه وعودة الثوار  للعمل والمشاركة في نهضة سلطنة عُمان لما راينا ذلك البلد اليوم بهذا البهاء والالق والازدهار والسلام الاجتماعي  .

 

لنجعل الحوار طبيعة فينا فعندما يتوقف الحوار بيننا ، فان التربصات تكون فرصة الخصوم لتمزيقنا ، فالحوار يولد الفهم والثقة والشفافية وحسن الظن ، واكثر الصراعات هي عندما لا نتحاور مع من نختلف معهم  فلا نفهمهم  ، فيسوء ظننا بهم فنقصيهم  فتكون الوقيعة .

 

وكلمة اخيرة فان سلاطين الجنوب لم يكن تاريخهم في الوطن كحالة عرضية وعابرة  ومؤقته ،  بل ان سلطنات وامارات ومشيخات الجنوب راسخة وتليدة وامتد تاريخ بعض ولايات الجنوب  لاكثر من ثمانية قرون ، وهذا ان دل على شيء فانما يدل على ان الحكم كان شوروياً وعادلاً ، ولم يكن الحاكم سوى ذلك الرمز الوطني ، الذي ينطق بالحكم المتفق عليه ، ونذكركم بالمثل اليافعي الذي يقول ( يا شيخ ما مشيختك إلاّ الرجال).