رحل سمو الأمير شعفل بن علي شايف آخر الأمراء الذين حكموا الضالع، وأكثرهم حضوراً في الذاكرة وفي الوجدان، تاركاً حزناً عميقاً في نفوس كل الذين أحبوه وكل الذين بدأوا بعد عقود يتلمسوا تاريخهم وجذورهم ومساراتهم التي أوصلتهم إلى هذه المحطة الاخيرة. لقد مثّل رحيله صدمة كبيرة باعتباره الرمز الأقرب الذي قاد إمارة الضالع في مرحلة صعبة وأسس فيها رغم ذلك ملامح الإدارة الحديثة في وقت مبكر وقصير.
لقد تحققت في عهد سمو الأمير شعفل بن علي شايف، رغم شحة الموارد الداخلية، الكثير من الانجازات في قطاعات الصحة العامة والتعليم الأساسي والزراعة والكهرباء والنقل والبريد… الخ بالإضافة إلى إرساء قواعد النظام المالي والضرائب والجمارك وتحديث الإدارة المحلية وبناء المنشآت المختلفة وتنظيم العمل لتلبية احتياجات المواطنين وخدمتهم، كما عمل على تثبيت قواعد الشراكة الواسعة من خلال الوجهاء وممثلي الشرائح الاجتماعية والشخصيات العامة في تدبير شؤون الإمارة وحياة المواطنين وقضايا الأمن والسلام الاجتماعي ومواجهة الصعوبات والتحديات. وثابر بحكمة وصبر في الحفاظ على النسيج الاجتماعي خلال فترة زمنية متحركة، فكانت الضالع منطقة نموذجية تكاد تخلوا من مسلسلات الثارات والعصبيات الصغيرة الداخلية وكان الحكم قريباً من الناس ومعاناتهم خلال فترات اقتصادية ومعيشية صعبة هيمنت في تلك العقود على دول مختلفة. ولم يكن للحاكم حينها ثروة تميزه عن الآخرين بل شكل نموذجاً فريداً ومختلفاً عما يفهمه الناس والمؤرخون حول الحكام وممتلكاتهم، وظل حاكماً متواضعاً محبوباً لا يميزه كأمير البلاد عن مواطنيه سوى مسئوليته وجهوده المتفانية والمضنية لحفظ الضالع قوية آمنة في مكانها الجغرافي الحرج ومكانتها التاريخية والسياسية والوطنية وبذل لأجل ذلك جهوداً كبيرة في فترة شديدة الحساسية من تاريخ الجنوب ومن تاريخ المنطقة العربية كاملة.
غادر الأمير شعفل بن علي شايف مدينة الضالع في العام ٦٧م وعاش منذ ذلك الوقت مع أفراد أسرته وأقاربه حياة بعيدة عن الأضواء. وفي المهجر شق كل منهم طريقه وواجهوا الحياة بكل عزة وصبر وثبات تاركين نبتة الوفاء تنمو في ذاكرة الناس يتوارثونها على المدى الزمني الذي أعقب مغادرة موطنهم، حتى دارت الايام والسنين وحلّ بالوطن المتعب ما حلّ، ليعود الجميع إلى البحث في سجلات أحلامهم عن ذلك البلد الهادئ الجميل المتصالح المدافع عن ذاته في الشدائد، عن ذلك العفوي الآمن، عن الهدوء والطمأنينة وقبل ذلك عن ماضيهم ليفهموا تماماً أين كانت البداية التي زرعت المفترق الرهيب في وعي الناس ولماذا تبدلت الأيام وذهب الناس إلى حيث لا يعلمون حتى ارتطموا بجدار الحقيقة المرة وأعادوا البصر نحو البدايات البعيدة.
لقد ابتعدت تلك الارض الطيبة كثيراً عن فطرتها ولم يسعف الزمن والوقائع أحداً لكي يستلهم فكرة التصالح ولم الشمل في وقت مبكر ويترك الشعب يختار مصائره بمعزل عن حالات الغضب الثوري الذي تدحرج بعيداً عن فرح البسطاء بعد أن استنزف أحاديثه وخطاباته باسمهم.
من هذا المعطى الجارح يتعين قراءة الماضي بعقول متفتحة من أجل التصالح وتصحيح المفاهيم، ليس من خلال المعرّفات الايديولوجية وقواميس العلوم السياسية وإنما من عمق الفطرة الانسانية ومن جروح الزمن ودروس التاريخ القريبة إلى وعي الإنسان العادي.
غادرنا أمير الضالع، الأمير شعفل بن علي شايف إلى جوار ربه، وفي قلبه محبة للجميع وأملاً بأن يرى مسقط رأسه وبقايا الأحلام التي تركها يوماً ما قبل خروجه.. ويرى الأجيال كيف هي وما تحمله الآن عن ماضيها وعن انتماءاتها، ويرى الضالع هل ما تزال كما هي، تلك البكر المغسولة بأمطار الصيف، ذات المنحدرات الخضراء والأودية الخصبة المدهشة وكأن الطبيعة أعدتها لتصبح ممراً أرضياً نحو "النعيم الفردوسي".. وهل ما يزال الشتاء يهيل الغيم على الأنحاء ويغمرها تاركاً قمم الجبال سابحة فوق أفق ناصع البياض.. ثم يرى كيف الأعياد وهل ما تزال حافلة بالتقاليد البسيطة الجميلة، ومن يجمع الناس في صباحاتها ليبعث فيهم بخطابةٍ متواضعة نشوة الفرح ويراهم يلوحون بابتساماتهم البريئة لملامحه الفتية السمراء محبة وولاء.
رحل الأمير شعفل، آخر الأمراء الذين حكموا إمارة الضالع مشمولاً بمحبة الناس واحترامهم ووفائهم، فلم ينس أحد منهم طيلة حياته.. وظلت ذاكرته محتفظة بتفاصيل إمارة الضالع وأهلها وعائلاتها وأرضها وفصولها وأحداثها وملامح من رحلوا بعيداً عنه ذات يوم. رحل الأمير شعفل رمزاً وحاكماً عاقلا متواضعاً حكيماً محبوباً.. وتبقى رمزيته حاضرة في عقول الحالمين بمستقبل آت.
رحم الله أمير الضالع شعفل بن علي شايف وأسكنه جنات النعيم.
احمد عبد اللاه