ما تزال ذكرى 7 يوليو تطل علينا بوجهها الكالح الأغبر كل عام لتذكرنا بلحظة انتكاس التاريخ وانعطاف المسار تراجعيا نحو ماضٍ غابر ظن الجنوبيون أنهم قد ودعوه منذ عقود وبلا رجعة.
سأتحدث لاحقا عن ذكرى التصالح والتسامح وانطلاقة الثورة السلمية الحنوبية، لكنني أعود إلى ذلك اليوم المشؤوم الذي كنت وزملائي من طلاب الدكتوراه والماجستير نتابع القناة الفضائية العربية الوحيدة في بلاد البلغار (MBC) حينما أعلن المراسل الصحفي حينها، الناشط السياسي والحقوقي الراهن د. توفيق جوزيليت أن وزير النفط والقائد العسكري الجنوبي السابق العميد صالح أبوبكر بن حسينون عليه رحمة الله ومغفرته ورضوانه، قد قتل في مواجهة مع القوات الشمالية عند مداخل مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وأن عدن محاصرة من جميع الاتجاهات في ظل معاناة أهلها من انعدام كل الخدمات بدءً بالماء والغذاء والدواء وانتهاءً بالمواصلات والكهرباء وسواها من ضروريات الحياة، في صيف عدن الحارق الخانق، وأن مسألة سقوطها بيد القوات الشمالية هي مسألة وقت ليس إلا.
منذ ذلك اليوم دخل الجنوب بمواطنيه وطبقته السياسية ومثقفيه وأدبائه ومبدعيه وعلمائه وكل المنخرطين من أهله في مجالات الإنتاج المادي والفكري، دخل مرحلة التراجع والعد التنازلي والذهاب باتجاه التلاشي الحقيقي وليس المجازي.
استعراض معاناة الجنوبيين طوال العقدين الأعجفين يحتاج إلى مجلدات، ومنذ أيام كانت إحدى الناشطات الحقوقيات تتحدث عن حصة الجنوب من المعهد العالي للقضاء وهو المعهد الذي كان يخضع في معاييره لضوابط الأمن السياسي، فإشارت إلى إنه في مقابل 2178 قاضي كانت حصة الجنوب طوال العقدين الماضيين 78 طالبا فقط ويعلم الله أية ضغوط وابتزازات تعرض لها هؤلاء المساكين حتى حصلوا على حقهم هذا، وقد لخص السيسيولوجي والشاعر والأكاديمي العدني د مبارك سالمين حفظه الله مأساة الجنوبيين مع دولة 7/7 حينما أمضى أشهرَ كاملةً متنقلاً بين مكاتب أقسام وأدارات ودوائر ووزارات الحكومة في صنعا ليعدل راتبه بعد حصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع التربوي ولكن دون طائل، لخصها بقوله الساخر :"أكبر مشكلة عندما تكون عاصمة بلادك في دولة شقيقة"
لقد كانت سنوات عجاف توقع معها الكثيرون أن التاريخ الجنوبي قد توقف وأن الخلاص من هذه الوضعية الكابوسية لن يأتي إلا بعد قرون، لكن للتاريخ حكمته وقانونياته التي لا تعلن عن نفسها إلا في أوانها المحدد، فقد كان مطلع العام 2007 موعد ملتقيات التصالح والتسامح التي كان أولها اجتماع جمعية ردفان الخيرية في 13 يناير وما إن حلت ذكرى 7/7/ 2007م حتى كان الفجر يشع بأنواره من وراء سحب الظلام الداكنة، فكانت الحركة الاعتصامية لجمعيات المتقاعدين العسكريين التي أشعلت الثورة السلمية الجنوبية وما تلاها من منعطفات وتحولات صارت معها المليونيات ظاهرة دورية تشمل معظم محافظات ومناطق الجنوب.
لقد تجاوزت القضية الجنوبية مرحلة التراكمات الكمية وحققت تحولات مهمة في هذا الميدان لكننا نعيش مرحلة التحول النوعي التي تتميز بتعقيداتها وتداخل العلاقات بين مكوناتها وتراكم عملية الفرز وتضارب بعض الاتجاهات فيها واستبيان معالم الطريق التي لا بد أنها قد اتضحت وتبينت محطاتها وفي ضوء ذلك تحديد الوسائل والغايات وأدوات العمل للوصول إليها.
في ذكرى سبعة يوليو لا بد لي من توجيه الرسالتين التاليتين:
الأولى: إلى المستعجلين من أهلنا الجنوبيين، ولهم أقول إن انتزاع الحرية واستعادة الوطن لمصيره لا يتحقق بمجرد الرغبة ولا حتى بمجرد توفر الحامل السياسي والأداة الأمنية والعسكرية فنحن داخلون في تحالف عربي عريض نعمل مع أطرافه بالتكامل والتعاون ونحترم الأولويات المشتركة بيننا وبينهم، دون أن يعني هذا بأي حال من الأحوال التنازل أو التراجع عن الهدف الذي قدم شعبنا في سبيله خيرة أبنائه وبناته.
الثانية: إلى الساخرين بشعبنا والمتحذلقين والمتزلفين للطغاة والغزاة، والمتشككين والمتندرين على مشاركة المجلس الانتقالي في المشاروات الهادفة لتنفيذ اتفاق الرياض، لهؤلاء نقول: إن القضية التي يناضل من أجلها شعبنا الجنوبي وتحت قيادة مجلسه الانتقالي لا تتعلق بالبحث عن وزارة أو منصب حكومي أو حصة مالية أو ترقية أن حصة في منهوبات النفط والثروات المعدنية والحيوانية البرية والبحرية، وإذا كنتم تنظرون للأمور على هذا النحو فصححوا نظرتكم، قضية الشعب الجنوبي وفي قيادته المجلس الانتقالي الجنوبي وكل القوى الجنوبية المؤمنة بحق استعادة الدولة الجنوبية هي أعمق وأهم وأكبر من كل المناصب والثروات والمسميات أنها تتعلق بحرية الشعب وكرامته ومستقبله وبأمنه واستقراره وبحقه في السيادة على أرضه بلا وصاية ولا تبعية.
السلام والرحمة والمغفرة لكل شهداء الثورة الجنوبية والشفاء للجرحى والحرية للأسرى والنصر للشعب الجنوبي من حنيش وباب المندب إلى سوقطرة والمهرة.