لسانك حصانك أن صنته صانك: يقول الشاعر العربي:
إنَّ الكلامَ لَفي الفؤاد وإنما
جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلاً
فحقيقة اللسان تتجلى في الكلام وحقيقة الكلام في كشفه عما في الضمير وأعماق الإنسان وبدون اللسان والكلام يبقى كل شيء في أعماقنا في السر والخفاء.. فيبقى فكرنا مغموراً وإحساسنا مكنوناً ويبقى ما يجول في بالنا من أفكار وخواطر مجهولاً، ويظل ما يدور في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس تجاه الآخرين وإزاء الأشياء مخبوءاً مكتوماً. فما لم يتكلم الواحد منا مع الآخر ويُعبّر عن باطنه لن يتمكّن من استشعار حاجاته ومطالبه بدقة وشمولية ووضوح إذا ما بقي الواحد منا صامتاً ساكتاً مع الآخرين يبقى موقفه تجاههم مبهماً ودفيناً فلا يُعلم منه أنه يحبهم أو يبغضهم، موافق على آرائهم أو رافض لاقتراحاتهم حتى ينطق ويتكلم، فيتحدد بذلك نظرته إليهم وبذلك يجري أمر اجتماعهم على قاعدة من الوضوح والتفاهم.
ولا تقف كلمة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه: "المرء مخبوء تحت لسانه" عند حدود الأفكار والاقتراحات والمواقف بل تتعداها إلى التوجهات والنوايا الأكثر عمقاً في شخصيتنا والأبعد مدىً في أفقنا. فتغدو الكلمات مشاريع ومخططات مكشوفة ومعلَنة. ومن خلال دراستها تتكشف سياسة الناس في طريقة تعاملهم مع بعضهم، دولاً وأفراداً. فقد تكون كلماتنا وعباراتنا التي نعبّر بها عما مكنونات أنفسنا مداميك في بنائنا الاجتماعي وروابط للحمتنا المدنية، وقد تكون معاول تهدم وحدتنا وتماسكنا وترابطنا.
فليتأمل العاقل في أهمية التعبير وأشكاله وخطورة الكلام ودوره في حياة الإنسان ومصيره مع بساطة تكوينه وسهولة أدائه. فإننا نستطيع من خلال هذا الهواء الذي يخرج من الصدر ليمر في طرق معيّنة من الحنجرة والفم بحيث يتنوّع الصوت ويتغير النغم.
ولا بدّ من الالتفات إلى العلاقة الوطيدة بين الكلام وبين إرادة المتكلم واختياره. فصحيح أن الكلام وظيفة منوطة باللسان من الناحية الفيزيولوجية لكنه في الوقت نفسه فعل من أفعالنا الاختيارية التي يحكمها شعورنا وإدراكنا من جهة تخطيطية، وقدرتنا وإرادتنا من ناحية تنفيذية.
فالكلام من هذه الجهة ليس فعلاً من أفعال اللسان إلا إذا شئتم أن تقصدوا بذلك أنه فعل لا إرادي، أي فعل بيولوجي من جهة أن كل عضو من أعضاء الجسد له دور ووظيفة في الحياة. لكن الكلام - من جهة النفس التي تتحرك بإرادتها واختيارها من خلال الجسد - يعتبر فعلاً اختيارياً وإرادياً للنفس، وليس فعلاً تكوينياً اضطرارياً كحركة العين أو حركة اللسان اللاشعورية. إن حركة اللسان بالتكلم خاضعة لحركة لنفس الإرادية، فإذا أردت أن تسكت يسكت لسانك، وإذا أردت أن تنطق ينطق. إذاً أنت حاكم أمرك وليس اللسان حاكمك، فلا يتذرّعنّ أحد بأنه قد سبقت هذه الكلمات على لسانه من دون قصد، بل هناك قصد خفي لهذه الكلمة، فلا نتسرع في إطلاق الكلمات لنقع في ورطات، ثم نعمد بعد ذلك إلى الاعتذارات حفظاً لماء الوجه، وإنما لنحاول قدر الإمكان أن لا نتصرف من خلال اللسان إلا بعد التفكُّر والتدبُّر واتخاذ القرار بأن نتكلم أو نصمت.
وإذا أردنا أن نتكلم فليكن كلامنا خيراً أو فلنصمت إلى الأبد.
طابت اوقاتكم
تحياتي عبدالحكيم الجابري..