في عز الصراع بين الفصائل الصومالية المتناحرة على السلطة، وامتلاء الشواطئ بجثث اللاجئين الصوماليين الهاربين من الجوع والحرب في بلادهم، أجريت حوارين مطولين، كان الأول مع وزير الخارجية في حكومة الرئيس عبدالله يوسف، وكان يومها عبدالله عمر إسماعيل، فيما كان الآخر، مع رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية، والرئيس اللاحق شيخ شريف شيخ أحمد.
في تلك الفترة، كنت مشبعاً بقناعة أن كل الصومال تشكو المجاعة، وأن كل صومالي لا يجد ما يأكل أو يلبس، سيّما بعد أن شاهدت في مخيم «خرز» للاجئين وزراء ورجال أعمال سابقين في حكومات الصومال السابقة، وهم يعيشون حياة الذل والفقر والجوع، بانتظار ما تجود به عليهم المنظمات الدولية.
في حواري مع الوزير، والرئيس الصوماليين، كان اهتمامي منصبّاً في المظاهر التي أراها، أكثر من اهتمامي بجوهر المشكلة، كنت أتساءل من أين لهؤلاء هذه الملابس الفاخرة، والمرافقين، والنزول في الفنادق الفخمة، وهم ينتمون إلى شعب يموت من الجوع فعلاً لا مجازاً.
وببراءة مني سألت أحد مرافقي الوزير، فأخبرني أن الوزير يملك أجزاء من ميناء، وأنه من كبار مصدّري المواشي.
في أزمة الصومال، تعلّمت لأول مرة أن الحروب، بقدر ما تطحن ملايين البسطاء، إلا أنها تصنع كذلك العشرات - إن لم يكن المئات والآلاف - من تجار الحروب ممن يثرون على بسببها، فتصير بالنسبة لهم، مغنماً، ما يجعلهم بالتالي يحرصون على إطالة أمدها، مهما كان الثمن الذي يدفعه البسطاء غالياً.
يذكرني واقع الحال، في الصومال في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بواقع اليمن اليوم، ربما مع فارق أن من أثروا واغتنوا في حرب الصومال كانوا من الوزراء والمسؤولين والمشائخ والقراصنة، في حين أن اليمنيين الذين استثمروا الحرب، شمالاً وجنوباً، كانوا خليطاً من الفاسدين، بما فيهم مَن يطلقون على أنفسهم صفة «المقاومة» ويسميهم الشارع «مقاولة»، بعد أن جعلوا من النضال والمقاومة مدخلاً للتجارة والفيد.
وعلى خلاف الصومال التي أقنعت الحرب فيها، كل العالم، أنها شعب فقير ومعدم، فقد تسبّبت الحرب في أن تغيّر نظرة الكثيرين في دول عديدة تجاه اليمني القادم من الشمال أو الجنوب، وبأنه نموذج للثراء، لا يفرق في ثرائه عن المواطن الخليجي، خاصة وهم يرونه يفتح المحلات الفخمة، وينزل في فنادق خمسة نجوم وما فوق، ويتملك الفلل والشقق، ويسهر في المراقص، ويعيش الحياة الباذخة بكل ملذّاتها.
حكى لي دبلوماسي جنوبي، في القاهرة، أنه كان إلى جوار زميل له قادم من عدن، فإذا بضابط مصري ينهال عليه بالإهانة واتهمه بالسمسرة، ما استنفزه، فقال للضابط إن زميله يدخل مصر للمرة الأولى، وتأشيرة جوازه تثبت، وأضاف - والحديث مازال للدبلوماسي- «من حقك يا أفندم أن تطبق قوانين بلدك على من يداخلها لكن ليس من حقك إهانة الناس، وأعلم أن اليمني فقير مادياً، لكنه غني بكرامته ولن يسمح لأحد بإهانته»، قال صاحبي، وهنا استشاظ الضابط غضباً وقال: «أنتم شعب فقير! أنتم أغنى من الخليج، إذا انتو رفعتوا سعر الفلل والشقق وأنا مش قادر أتجوز بسببكم»، وتمتم الضابط بسخرية: «قال فقرا قال».
منذ انطلقت الحرب في اليمن، أثرى الكثير، من السياسيين، والقادة العسكريين وقادة «المقاومة»، وتحولوا في عامين وضحاها، إلى تجار ومستثمرين، في أرقى أحياء وشوارع اسطنبول، وعمان والقاهرة، حتى أصبح المواطن العربي يظن أن أكبر خدعة انطلت عليه هي اعتقاده، أن اليمن بلد فقير.
تقول زميلة تعيش في القاهرة: أخذت سيارة تاكسي في مشوار، وقلت له على مدينة فيصل يا اسطى، فردّ مباشرة: «هو أنت عراقية؟»، ققلت له أنا يمنية.
تقول الزميلة: استغرب الرجل، وقال: «يمنية وتسكني في حي الفقراء فيصل، اليمنيون كلهم في الزمالك وعلى النيل، أما فيصل دي للبلدان الفقيرة مثل العراق ولبنان وفلسطين وسوريا».
في اليمن، على قدر ما خلّفت الحرب، من مآسٍ، ومواجع، وفقر ومعاناة، وناس تأكل من مقالب القمامة، فإنها قد خلّفت أيضاً صفاً طويلاً من الأثرياء الذين كانوا يتسولون قيمة فنجان الشاي في زمن ما قبل الحرب. فهناك الوزراء والمسؤولون والقادة العسكريون ورجال «المقاومة»، وحتى السماسرة الذين شملتهم طفرة الغنى الفاحش بصورة مفاجئة، حتى أن مثل هؤلاء باتوا معزولين عن واقعهم ولا يشعرون بمعاناة شعبهم، وأصبحت الحرب بالنسبة لهم مغنماً ومكسباً يحرصون أن تستمر ولا تتوقف.
ومن دون شك أنه لولا الفساد الذي ينخر كامل جسد السلطات في اليمن، وبحماية رسمية، ما استطاع مثل هؤلاء أن يتباهون بفسادهم ويستفزون فقراء شعبهم بممارسة الفساد وادّعاء النضال معاً.