منذ أن وضعت الحرب أوزارها، حلم الناس في المحافظات المحررة، وتحديداً عدن، بدولة المؤسسات والنظام والقانون، طمعاً في حدوث نقلة سريعة وإيجابية في واقعهم الإقتصادي والاجتماعي تنعكس على معيشتهم، وتنتقل بهم إلى واقع أفضل مما كانت عليه أحوالهم قبل الحرب.
بدورها، لم تخيب الحكومات المتعاقبة آمال وأماني الناس، فحققت لهم ما يتمنون، لكن بطريقتها وفهمها هي، إذ جاءتهم بمؤسسات تتحكم بالدولة وبالناس، ما جعلهم يعيشون واقعاً سيئاً لم يعرفوه حتى في أسوأ أيام الحرب.
ومع اشتداد الأزمات المتتالية التي باتت تخنق حياة الناس، بدت الحكومات الشرعية وكأنها محتارة في أمر رعاياها، وكأننا بلسان حالها يقول: هذه هي المؤسسات، وهذا حكمها، فلم أنتم غاضبون؟
في مفهوم حكومات الشرعية المتتالية لحكم المؤسسات، يكون من حق موظفي "مصافي عدن" أن يمنعوا المشتقات النفطية، ويقطعوا مخصصات الكهرباء من المازوت، لسبب بسيط وهو المطالبة بإكرامية شهر رمضان في أيام الحرب.
وفي مفهومها أيضاً، يكون من حق مدير شركة المصافي المقيم في الأردن إدارة الشركة بالهاتف، حتى أوصلها لمرحلة تسول معاشات موظفيها، دون أن يجرؤ أحد على أن يقول له كفى فساداً واستبداداً واستهتاراً. ولا شيء يبرر هذا، غير أن الرجل يدير شركة كلمتها أعلى من كلمة الدولة، خاصة وهو يحظى بالدعم اللامحدود من مؤسسات فساد رسمية أخرى، هي بدورها تملك قوة على الواقع تتفوق على قوة الدولة الهلامية.
وتجسد مؤسسة الكهرباء في عدن نموذجاً آخر لحكم المؤسسات الفاسدة؛ فهذه المؤسسة غدت تمتلك قوة خرافية قادرة على أن تلف ليالي المدن المحررة، وتحديداً عدن، بالظلام. كما أنها - مؤسسة الكهرباء - أثبتت تميزها بجاذبية تشبه جاذبية مثلث برمودا في إخفاء وفقدان كل ما ينفق عليها ويقدم لأجل إصلاحها؛ فالمشتقات النفطية تستهلك بصورة مخيفة، والمولدات تتلف وتخرج عن الجاهزية بعد لشهر من تركيبها. والأمر الغريب أن الشبكة لا تحتمل الاثقال لأكثر من ساعتين متتاليتين، إلا إذا قرر الفاسدون في المؤسسة غير ذلك، عندها يمكنها أن تعمل على مدار الساعة دون أي خلل، كما حدث عند تنفيذ انقلاب السبت بحق مدير شركة النفط السابق، الدكتور عبد السلام حميد.
بعد عامين من الشقاء، منذ أن توقفت أصوات مدافع الحرب، لا يبدو الناس مستوعبين كيف تحولت مطالبهم بدولة المؤسسات إلى وبال عليهم، والسبب هو تباين مفهومهم هم ومفهوم الدولة الشرعية للمؤسسات، بل لقد صاروا يتمنون ضياع هذه المؤسسات أو خصخصتها طالما كان حكمها بهذا الفساد وهذه القسوة، وإن كان ذلك هو عين الخراب على المجتمع، ناهيك عن كونه يمثل طموح الفاسدين.
إن المسارعة في بناء دولة المؤسسات العادلة ومكافحة الفساد هو السبيل الأوحد للقضاء على سطوة مؤسسات الفساد التي تدمر حياة المجتمع، وتنخر السلطات الحاكمة من داخلها.
كما أن تمكين مؤسسات الفساد من التحكم بمصائر الناس ومصالحهم إنما يقصر في عمر الدولة، ويقضي على ثقة وآمال الناس فيها، في أن تقود المجتمع نحو أي نصر أو نجاح في معارك السياسة والاقتصاد، والأهم في ميادين الوغى. فمن يعجز عن ردع مخرب أو فاسد في المصافي أو الكهرباء أو في توريد مشتقات النفط، هو أعجز عن مواجهة صواريخ ومدافع الخصوم، وإن كان لمعارك الميدان رجال من نوع آخر لم تصل إليهم مؤسسات الفساد، ونتمنى ألا تصل.