عندما تدخلت قوات التحالف العربي بقيادة أبطال القوات السعودية والإماراتية الخاصة لتحرير المُكلّا في 24 أبريل 2016م بدأت معها حضرموت تستعيد ذاتها التي أُخفيت قَسرياً على مدار نصف قرن بدأت منذ تهاوي سلطناتها (القعيطية والكثيرية) حتى احتل تنظيم القاعدة الإرهابي مدينة المُكلّا في أبريل 2015م لتعيش حضرموت أسوأ مراحلها التاريخية على الإطلاق، فلقد توسعت دائرة الخوف والإرهاب في أرجائها التي تحولت على مدار سنوات طويلة لمأوى لتجار المخدرات والتهريب وغسيل الأموال، ووتحولت حضرموت من باعث للأخلاق والقيم والدعوة إلى الله إلى باعث للخوف والحزن والألم.
جهزت السعودية والإمارات جيشاً حضرمياً خالصاً سُمي بـ(جيش النخبة)، انتصر هذا الجيش في اختبار استعادة الذات الحضرمية لثقتها في قدراتها، خاضت حضرموت بعدها مرحلة الثبات على الأرض المحررة، عام من احتلال القاعدة للمُكلّا ترك وراءه ما تركته الحِقب السابقة بداية من استقلال اليمن الجنوبية في 1967م ثم توقيع الوحدة اليمنية في 1990م، منعطفات حادة عرفتها حضرموت تركت تأثيراتها العميقة في المجتمع الحضرمي الذي تصدعت أركان بيته الكبير جراء هذه المنعطفات التاريخية.
شَكلَ صلح القبائل الحضرمية في العام 1937م برعاية المندوب البريطاني السامي انجرامس علامة في التاريخ الحضرمي وأسس قاعدة اجتماعية مغايرة لما عرفته جنوب الجزيرة العربية على مدار قرون ثلاثة ماضية عاشت فيها في ظل قوة وضعف للسلطنات القعيطية والكثيرية، غير أن صلح القبائل كان نقطة فارقة لا يمكن للقارئ في التاريخ الحضرمي تجاوزها، فوضعت الثأرات بين القبائل الحضرمية جميعها وانعكس ذلك على المجتمع المدني الذي وجد مساحة مختلفة ليخوض في جوانب التجارة والتنمية الاقتصادية، ولولا صعود المد القومي في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم لكانت حضرموت تصوغ تجربة مختلفة عما حصل لها آنذاك.
ولأن الهجرات الحضرمية صفة متلازمة مع التاريخ، فلقد توجهت الهجرة الأخيرة نحو البلاد الحجازية نتيجة المجاعة أولاً ثم تردي الأوضاع السياسية بوصول القوميين إلى حكم جنوب اليمن، لذلك شكلت المملكة العربية السعودية الحاضن للحضارمة، وبرغم تأثير كثير من المهاجر في حضرموت تبقى تأثير السعودية خلال القرن الأخير الأهم والأكثر حضوراً، فالدور السعودي الذي احتضنت الحضارم في جوعهم مع المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه - امتدت لزمن الملك فيصل بن عبدالعزيز -يرحمه الله- عندما فر الحضارم خوفاً، فكان حكام البلاد السعودية عوناً وسنداً وحاضناً للجائع والخائف منهم؛ من هنا كان الدور السعودي متواصلاً وبقي كذلك حتى مع بعد تحرير حضرموت.
في العام 1927م عقد الحضارم مؤتمرهم الأول في المُكلّا، ثم عقدوا المؤتمر الثاني في 1928م في سنغافورة، وفي كلاهما تم تأسيس الأرضية للنهوض بحضرموت عبر رؤى حاولت دمج السلطنات وتحسين البنية الاقتصادية، لم تسعف الحضارم الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها آنذاك.. اليوم الوضع مختلف تماماً فحضرموت لا يليق بها الوضع الراهن بعد فشل تجربتها السياسية بداية من حقبة السلطنات ومروراً باليمن الجنوبي وانتهاءً بالوحدة اليمنية، فالفقر والفساد والبطالة وتفشي المخدرات وانتشار السلاح وتزايد الثارات وضعت حضرموت في إطار بائس لا ينسجم وتاريخها وعراقتها وتأثير أبنائها في الشرق الآسيوي والإفريقي والخليج العربي.
التطلع نحو المستقبل يبدأ من مؤتمر حضرمي جامع يؤكد أحقية الإنسان أولاً في ثرواته ثم حقه الكامل في التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية والإصلاح المجتمعي وتأكيد الهوية الحضرمية كإطار يمتلك القدرة على التأثير في المحيط، هذا المؤتمر قد يكون نواة لإصلاح كل ما في جنوب الجزيرة العربية من ضرر أُصيب به نتيجة السلوكيات الحادة التي انتهجتها الأنظمة السياسية، الفرصة الحقيقية مواتية نظراً لاقتراب السعوديين والإماراتيين معاً من تفاصيل حضرموت حاضراً، فكما أسهموا في تخليص حضرموت من الإرهاب يحتاج لهم اليوم الإنسان الحضرمي ليضعوه في بداية الطريق نحو مستقبل آمن.. فبين يدي مؤتمر حضرموت الجامع حكمة وشجاعة الملك سلمان بن عبدالعزيز الخبير بتضاريس حضرموت وما تمثله من عمق للأمن والاستقرار لكل جزيرة العرب.