هل سيفقد الخليج ميزة النفط : نعمة الجيو ـ فانتازيا!

2015-09-01 04:50

 

تستحضرني في البدء كلمة العالم الألماني المعروف لانج باين، كان يرددها في بداية كل عام عند استقبال طلاب السنوات الأولى، بأن الجيولوجيا هي نوع من الجيو – فانتازيا، لأنها تبحث في مجاهيل كثيرة أشبه بالخرافات. فحينما ترى جبلاً يقال لك بأنه تكون في قاع البحر، أو ترى اشكالاً مختلفة تماماً لسطح كوكب الارض، خلال حقب زمنية من تاريخ تطوره، بسبب حركة الصفائح… الخ، فإنك قد تشعر بالحاجة إلى بعض فضاءات الفانتازيا وكأنك أمام سردية من الخيال التأملي.

 

ومع البحث عن طبيعة العلاقة بين الظواهر والمسببات الممكنة وتفسيراتها على قاعدة العلوم المعروفة، فإن مقولة الجيو – فانتازيا تجد ما يبررها في الجانب التطبيقي من زاوية تحفيز الخيال «لإدارة عدم المعرفة» حول المحتمل المخبوء في جوف الكوكب، لكي يأتي العقل على مقاربة ما في إطار فرضيات علمية خارج المألوف تقدم صورا للاحتمالات غير المثبتة في الراهن العلمي لعلوم الارض والمتعارف عليها نظرياً. هكذا ندخل إلى مسألة بالغة الاهمية ونمضي للربط بين المقدمة هذه والسياقات الأخرى.

 

في المشهد العربي هناك غياب للأسئلة الصادمة بشكل عام وفي مجالات كثيرة حتى وإن كانت تتعلق بمسائل حيوية ومصيرية.

 

في النصف الاول من العقد الماضي تحدث كثيرون عن حكاية نضوب النفط وإمكانية ان يُصاب العالم ب»مجاعة طاقوية» وبأن الحضارة المادية والروحية للبشرية مهددة عندما تنهار منحنيات الإنتاج النفطي بشكل طبيعي وتدريجي أمام المتطلبات العصرية لأهم مصدر أحفوري للطاقة. وعلل كثيرون بأن العالم خلال العقدين الأخيرين لم يشهد اي اكتشافات نفطية كبيرة بالاحجام التي تمت خلال العقود السابقة في الخمسينات وما تلاها من القرن الماضي.

 

وبالطبع كان للكتاب الأمريكيين السبق في مثل هذه التحذيرات، وذهب العالم الغربي على إثرها للبحث عن بدائل من المصادر المتجددة، وتبنت كثير من الدول مشاريع تطوير استخدام الطاقة من مصادر متنوعة، وبرزت مقولة أن الغاز هو مستقبل النفط… الخ.

 

والحقيقة أن مسألة النضوب التدريجي للنفط ليست غير واقعية فهناك مؤشرات كبيرة بان العالم بالفعل لم يشهد اكتشافات حقول عملاقة كما حصل في الماضي البعيد، لكن تفسيرات النضوب تأخذ فرضيات نسبية أهمها أن الحديث عن نضوب النفط يبدأ عندما لا تستطيع أعلى قدرة إنتاجية للنفط العالمي من تغطية احتياجات السوق أو أن الاحتياط النفطي العالمي يهبط بحيث لا تعوض أي اكتشافات جديدة هذا الهبوط. ولا يوجد بالطبع تعريف دقيق وثابت للنضوب خاصة والأمر يأخذ أبعاد فنية واقتصادية وتدخل فيه عوامل مختلفة.

 

ما يهمنا هنا أن العالم وهو يروّج لفرضيات النضوب، تفاجأ، وبصورة معاكسة تماماً، بالنمو المتسارع لما يسمى بالنفط الصخري أو نفط السجيل بعد الإكتشافات المتلاحقة في الولايات المتحدة وبلدان أخرى وزيادة مساهمة هذا النفط في تلبية احتياجات الاسواق. وهذه الإكتشافات الجديدة استهدفت النفوط في «بنية صخرية» غير تقليدية ويتم استخراجها بطرق إنتاجية ووسائل تكنولوجية غير تقليدية. وهكذا تضافرت التكنولوجيا مع المنهج العلمي الذي اتسع لما خلف المعارف المكتسبة والتي أخذت حال الثبات خلال رحلات التنقيب عن النفط والغاز. 

 

وكل ما في الأمر أن المعرفة حول الصخور المصدرية المنتجة للهيدروكربونات (shale) والتي تعتبر صخوراً صلدة بنفاذية تكاد تكون معدومة ومشبعة بنفوط وغازات محتبسة، لم تكن في حسابات الاحتياطات الممكنة ولم تكن ضمن استراتيجيا التنقيب عن النفط والغاز بالوسائل العلمية والتقنية التقليدية.

 

إن الاهم في هذا الامر ليس اختفاء فرضيات نضوب النفط التي سادت بقوة قبل فترة قريبة وأثارت مقدمات لسيناريو الهلع الممكن حدوثه إثر ارتفاع أسعار النفط بصورة مدمرة لاقتصاديات العالم وما يرافق ذلك من انكماش حضاري رهيب، وانما الأهم أن النفط الصخري ووفرته والسعي المثابر إلى تقليص كلفة إنتاجه إلى أدنى مستويات من خلال تطوير التكنولوجيا المتعلقة بإنتاج ذلك النفط (وهناك مؤشرات على ذلك)، بالاضافة إلى التفكير المستقبلي في إعادة تجهيز البنية الاساسية للقطاع الصناعي والمواصلات والمنشآت المدنية والعسكرية وغيرها بما يتوافق مع مرونة استخدام مصادر مختلفه للطاقة، كل ذلك سيؤدي إلى فقدان ميزة النفط التقليدي (إن صح التعبير)، خاصة وأن هناك دولا كثيرة مؤهلة لأن تدخل في عداد المنتجين للنفط الصخري والغاز الصخري حينما تصبح التقنيات متاحة بشكل اقتصادي. وهنا تصبح مسألة التفرد باحتياطات وفيرة نسبية بل وتصبح تلك الميزة من الماضي إذا انهارت اسعار النفط وتوازنت عند مستويات منخفضة جداً. 

 

بالطبع ما يزال الامر بحاجة إلى وقت قد لا يطول، لكن يجب لفت النظر إلى ندرة الخيال عند العرب ولا نقول العلوم لأن الأخيرة متاحة للجميع، حيث كان يجب أن يكونوا اسياداً في علوم الأرض والثروات الطبيعية وسباقين لإدراك الحقائق الجديدة على اعتبار أن أرضهم بالغة الخصوبة بالمواد الهيدروكربونية (النفط والغاز) وهي مادتهم ومصدر حياتهم ووزنهم في العالم.

 

ألم يخطر في البال لمرة واحدة أن المواد الهيدروكربونية متوفرة في تموضعات رسوبية وتركيبية غير تلك المتعارف عليها في كلاسيكيات النظريات والمعارف العلمية الجيولوجية السائدة، وفي مناطق كثيرة من العالم وبكميات كبيرة؟ وأن هذه الوفرة ربما تجعل من النفط مادة تتواجد في مكامن منتشرة لعدد كبير من بلدان العالم وبالتالي تصبح هذه الوفرة ميزة عالمية تؤثر بشكل كبير على اسعار النفط بحيث تفقد البلدان الرائدة حالياً أهميتها على المدى الاستراتيجي وتتقلص عوائدها إلى درجة مخيفة؟ الم يحظ الخيال العربي بمكانة موضوعية أحياناً ليصل إلى فرضيات غير محسوبة في سياقات التفكير العادي من أجل الأخذ بالحيطة والحذر والذهاب بشكل استباقي نحو مراحل ما بعد النفط أو التهيئة لها قبل أن تدق الأجراس.

 

يبدو أن للفانتازيا كنهج وللخيال كوسيلة مقننة ضرورات عند الغرب وهو ما انعكس في كثير من الأعمال الروائية والسينمائيات المثيرة، وكما قال البروفسور الألماني بأن الفانتازيا ضرورة ليس لصياغة الخرافات والأساطير ولكن ايضاً لتحفيز العقل على فهم ما ليس في متناول النظر حين تتعامل مع جوف الطبيعة ومكنوناتها… من زاوية أن جوف الارض بتكويناته وهندسته المعقدة، اللامرئية الا من خلال البيانات النظرية والتطبيقات التقنية، سيفاجئنا بأن لديه أكثر مما نعلم.

 

ولم يتخيل العرب لمرة واحدة أن هناك امكانية تطور التكنولوجيا بشكل متسارع وغير محدود سيشق طريقه إلى بناء واقع مختلف في مجالات التنقيب، لا يجعل من النفط العربي ذا أهمية تذكر؟

الآن هناك بالفعل تأثيرات طارئة كبيرة على اقتصاديات الدول المنتجة للنفط جراء الأسعار المنخفضة، ولا يجب التعامل مع الأمر كطارئ مؤقت وإنما حان الوقت لأن يطرح العرب أسئلة كبرى في مجالات الاقتصاد والقدرات الضرورية للأمن الاستراتيجي وربما التزود بما يجب من «الفانتازيا الخلاقة» الضرورية لمواجهة المتغيرات المستمرة على هذا الكوكب الذكي.