عدّ "الفارابي" الكلام صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة الّتي صرّح بها واضع الملّة وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل، ورأى أنّ هذه الصّناعة تشتمل على قسمين: قسم يتعلّق بالآراء وقسم يتعلّق بالأفعال. ( 1 )
وعرّف "عضد الدّين الإيجي" الكلام بكونه علماً يقتدر معه على إثبات العقائد الدّينيّة بإيراد الحجج ودفع الشّبهة. (2)
أمّا "ابن خلدون" فقد اعتبر الكلام علماً يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنة. وفي هذه التّعريفات الثّلاثة المتنوّعة نجد بعض الاختلالات في حصر علم الكلام و في وضع تعريف دقيق له. فابن خلدون استعمل في تعريفه ألفاظاً مثل "المبتدعة، المنحرفين، مذهب السّلف، السنّة "وهذا يجعل تعريفه مليء بالصّراع. وأمّا عضد الدّين الإيجي فقد حصر مجال اهتمام علم الكلام في العقائد الدّينيّة والحقّ أنّ مجال اهتمام هذا العلم أوسع. وأخيراً فإنّ تعريف الفارابي يعتبر تعريفاً دقيقا مقارنة بالتّعريفات التي طرحها ابن خلدون وعضد الدّين إلاّ أنّنا نجد فيه بعض التّحقير لعلماء الكلام، إذ أنّ القول بأنّ الكلام صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء المحمودة وتزييف كل ما عداها، يجعل من المتكّلم شخصاً مجادلاً قد يستعمل كلّ الوسائل من أجل الإقناع. وبين قوسين نقول إنّ بعض المتكلّمين كانوا كذلك، أي كانوا مجادلين، خصوصاً السّياسيّون منهم كالخوارج وغلاة الشّيعة وخصومهم من الأمويّين والعبّاسيّين.(3)
وعموماً يمكن أن نقول إنّ علم الكلام هو "من العلوم الإسلاميّة القديمة، وهو ضرب من النّشاط الفكريّ الإنسانيّ وتعبير مخصوص عن الدّين كان في تواشج مع حقول معرفيّة أخرى وتفاعل مع سلطات وأنشطة اجتماعيّة وسياسيّة وظروف تاريخيّة خاصّة عرفها المجتمع الإسلاميّ القديم".( 4)
هذا عن علم الكلام، نأتي الآن للحديث في هذا التّقديم عن الأئمة الأربعة. ونقصد بالأئمة الأربعة، أولئك الفقهاء الأربعة الذين تمّ تمجيدهم والإعلاء من قيمتهم طيلة قرون من الزّمن، نظراً لمكانتهم العلميّة العظيمة، وهم: أبو حنيفة النعمان، مالك بن أنس، الشّافعيّ، أحمد بن حنبل. وقد تميز كل إمام من هؤلاء الأئمّة بمدرسته الفقهيّة المميّزة.
إنّ أهميّة هذا الموضوع الّذي أكتب عنه تتجلّى في كون رأي بعض الأئمة الأربعة في علم الكلام رأي قاس أدّى وبدون شكّ إلى دعم تيّار مناهض للكلام ولكلّ آليّاته ومنظومته الفكريّة. وبالتّالي، فإنّ هذا الرّأي قد يكون مسؤولاً عن تقهقرنا وتخلّفنا على المستوى الفكريّ. فلا أحد يستطيع أن يغمض عينيه عن حقيقة أنّ الفكر الإسلاميّ كان في أوج قوّته ونضجه أيّام تواجد علماء الكلام وأيّام كان الكلام مسموحاً به. وهنا نفتح قوساً أيضاً ونقول أنّه مع ذلك فإنّ التّدريس داخل الجوامع والجامعات ظلّ دائماً من نصيب الفقهاء.
كلّ ما ذكرته في هذا التّقديم يجيز لي أن أتساءل: ما موقف الأئمّة الأربعة من علم الكلام؟
وكخطوة منهجية، حتّى أجيب على هذا السّؤال الرّئيسي، سأركّز في هذا المقال الجامعي على أربعة مباحث، وسأخصّص كلّ مبحث للحديث عن إمام من الأئمة الأربعة، وسيقتصر حديثي على التّعريف بالإمام وسرد أهمّ ما تميّزت به مدرسته الفقهيّة، ثمّ أتحدّث عن رأيه في علم الكلام. وأخيراً سأنتهي بخاتمة وسيكون كلّ هذا مختصراً.
المبحث الأوّل: أبو حنيفة النّعمان
"أقمتُ على أبي حنيفة خمس سنين، فما رأيتُ أطول صمتاً منه، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتّح، وسال كالوادي، وسمعت له دويّاً وجهارة بالكلام". ( 5 ) هذا ما قاله جعفر بن الرّبيع عن "الإمام الأعظم" فقيه العراق أبو حنيفة النّعمان الذي يعتبر إماماً إشكالياً في تاريخ الفقه الإسلاميّ. إذ أنّه إمام حيّر البعض في آرائه الفقهيّة. وذلك لأنّه أكثر من الاجتهاد ممّا جعله من زعماء أئمّة مدرسة أهل الرّأي.
ولد أبو حنيفة بالكوفة، سنة 80 من الهجرة النبويّة، وفي سنّ الثّانية والعشرين، تفرّغ للعلم. وقد عاش أبو حنيفة في عصر كثرت فيه النّقاشات الفكريّة والسّياسيّة، وكان عليه، تبعاً لذلك، أن يتمثّل حصاد عصره خاصّة فيما يتعلّق بالفقه الإسلاميّ.
وقد كان أبو حنيفة فقيهاً مفتياً، والإفتاء في الفقه يعتبر مرحلة عليا في هذا الحقل العلميّ. وما جعل أبو حنيفة مفتياً قويّاً هو قدرته على القياس والاجتهاد بالرّأي. هذا الاجتهاد الذي أدّى إلى اتّهامه في حياته وبعد وفاته بمخالفة السّنة. إلاّ أنّ أبي حنيفة ردّ في أكثر من موضع عن هذا الاتّهام. فقال: "ما جاء عن رسول الله فعلى الرّأس والعين بأبي وأمي، وما جاء عن أصحابه تخيّرنا، وما جاء عن غيره فهم رجال ونحن رجال".( 6 )
إنّ فقه أبو حنيفة يعتمد على مصادر من الكتاب والسّنة ومن فقه الصّحابة والقياس والاستحسان والعرف. في حين كان معاصره الإمام مالك يأخذ بالكتاب والسّنّة وفقه الصّحابة وعمل أهل المدينة والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة. وهذا الاختلاف في مصادر الإفتاء جعل النّقد يتوجّه إلى أبي حنيفة النعمان.(7)
نأتي الآن لذكر موقف أبي حنيفة النّعمان من علم الكلام. وأوّل الملاحظات التي يمكن تسجيلها هي أنّ اعتبار أبي حنيفة من أتباع مدرسة أهل الرّأي التي مالت للاجتهاد ولم تقف عند آراء السّلف، يجعل منه فقيهاً مرحباً ومتسامحاً مع علم الكلام. بل إنّ بعض آرائه انصبّت في علم الكلام، فأبو حنيفة، على سبيل المثال، أجاز ترجمة القرآن وخالف بذلك جمع من العلماء كالإمام مالك والشّافعي وغيرهم. وقد استند التيّار الذي أجاز ترجمة القرآن وعلى رأسهم أبو حنيفة إلى أنّ الفرس كتبوا إلى الصّحبي سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسيّة فكانوا يقرؤون التّرجمة الفارسيّة للفاتحة في الصّلاة. ورأي أبو حنيفة في ترجمة القرآن يحيلنا إلى الخلاف الذي أثير بين أهل الكلام من المسلمين حول القرآن، هل هو قديم أم محدث أو هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟
وقد انقسم المسلمون في هذه المسألة إلى قسمين:
- قسم يرى أنّ القرآن غير مخلوق وأنّه قديم وأنّه كان قبل أن يكون الكون.
- قسم آخر رأى أنّ القرآن مخلوق ومحدث مثله مثل المخلوقات الأخرى التي يجادل الإنسان في وجودها ومكوّناتها بحريّة كبرى.(8)
غير أن موقف أبو حنيفة من علم الكلام موقف الفقيه القلق والشّكّ من نفع هذا العلم، فقد سئل عن اختياره للفقه كعلم يدرسه دون العلوم الأخرى وفي إجابته عن هذا السّؤال تطرّق لموضوع علم الكلام وبين موقفه منه، فقال: "إنّي لمّا أردت تعلّم العلم، جعلتُ العلوم كلّها نصب عيني، فقرأت فنّا فنّا منها، وتفكّرت في عاقبته، وموضع نفعه. فقلت آخذ في ( علم ) الكلام، ثمّ نظرت، فإذا عاقبته سوء، ونفعه قليل، وإذا كمل الإنسان فيه، لا يستطيع أن يتكلّم جهاراً، ورُمي بكل سوء، ويُقال عنه صاحب هوى".(9)
المبحث الثاني: مالك بن أنس
وعلى هذا، فإنّ علم الكلام هو أوّل العلوم التي فكّر أبو حنيفة النّعمان في دراستها غير أنّه رأى أنّ نفع هذا العلم قليل، وأنّ الكلام يؤذي صاحبه، وبالتّالي فإنّه ميدان علميّ خطير تجنّبه.
وُلد الإمام مالك بن أنس بن مالك أبو عامر الأصبحي اليمني بالمدينة، سنة 93 هجريّة. وقد كان آل بيت الإمام مالك مشتغلون بالأثر والحديث، ولذا فقد نشأ في بيئة ثقافيّة ساهمت في تكوينه وجعله إماماً من كبار الأئمّة.
وقد كان مالك فقيهاً مفتياً، والإفتاء في الفقه مرحلة لا يبلغها إلاّ العلماء المتبحّرون في حياة النّاس وسياسة النّاس ومعتقدات النّاس ومعارف وعلوم عصرهم. وفقه مالك بني على أصول لم يقم بتدوينها، بل دوّنها بعده تلاميذه، فقهاء مذهبه.
ويمكن حصر أصول مالك في: ( القرآن الكريم، السّنة النّبويّة، الإجماع، فتوى الصّحابي، عمل أهل المدينة، القياس، الاستحسان، الاستصحاب، المصالح المرسلة، الذّرائع، العرف والعادات. وهذه الأصول استقاها تلاميذ الإمام من موطئه.
ومالك لم ينظر للتّنزيل الحكيم نظرة الجدليين من علماء الكلام، في أنّه لفظ ومعنى، أو لفظ فقط، أو معنى فقط، ولا في أنّه مخلوق أو غير مخلوق…
فالقرآن عنده يشتمل على الشريّعة اشتمالا كليّاً.(10)
ويُعتبر مالك إمام أهل السّنة. ولذلك فإنّه كان يبغض أقوال المتكلّمين من الفرق الإسلاميّة في العقائد، فالسّنّة هي، في النّهاية، فرقة من الفرق الإسلاميّة التي تدافع عن آرائها. وفي رأي مالك أنّ الفرق الإسلاميّة التي تمارس الكلام تثير أموراً لم يثرها السّلف الصالح، وليس من مصلحة المسلمين إثارتها، فهي قامت بمناقشة أمور غيبيّة بواسطة العقل، وهذا لا يصح، لأنّ العقل هنا يظلّ. ولهذا ينسب لمالك أنّه قال: "إيّاكم والبدع، فقيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل الكلام".(11)
وقد سئل الإمام مالك عن استواء الله على عرشه، فقال جوابه الشّهير: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسّؤال عنه بدعة".
وفي زمن مالك كما في زمن معاصره أبو حنيفة النّعمان ثارت نقاشات كثيرة مثل هذه…
وعن الكلام عن الإيمان هل يزيد وينقص، وعن أفعال الإنسان هل هي اختياريّة أم إجباريّة وعن خلق القرآن…
وكان موقف مالك في كلّ هذه القضايا الكلاميّة هو أنّه ينبغي الوقوف فيها عند ما وقف عنده السّلف بعدم تجاوز النّصّ وعدم الجدل فيه لأنّه لا فائدة من ذلك.(12)
المبحث الثّالث: الشّافعي
ولد الإمام محمّد بن إدريس الشّافعي سنة 150 من الهجرة النّبويّة بمدينة غزة. وقد عاش في أسرة فقيرة. وعندما بلغ من العمر عشر سنوات بدأ بحفظ القرآن، ثمّ بعد ذلك راح يستمع إلى المحدثين في الحرم المكّي، فيحفظ الحديث الذي يسمعه أو يكتبه.
وبدوره كان الشّافعيّ فقيهاً مفتياً. وقد انتقد آراء الإمام مالك، بعد أن بلغه أنّ مالك تقدّس آثاره، وثيابه في بعض البلدان الإسلاميّة. وأنّ من المسلمين من يعارض أحاديث النّبي بأقوال مالك… فانبرى الشّافعي للدّفاع عن الدّين معتبراً أنّ مالك يصيب ويخطئ.
وقد وضع الشّافعي كلّيّات الفقه في مذهبه في كتاب "الأمّ" فوضع بها علم الأصول. وقد قسّم الشّافعي علم الشّريعة إلى قسمين:
- القسم الأول: علم العامّة: وهو العلم بما هو معلوم من الدّين بالضّرورة من أركان الإسلام ومحرّماته والعلم بها واجب على كلّ مسلم أن يعرفه. والقسم الثّاني: علم الخاصّة، وهو العلم بفروع الشّريعة، ممّا فيه تأويل من نصوص القرآن، وممّا ليس فيه نصّ متواتر عن الرّسول، مثل أخبار الآحاد. وهو عند الشّافعي خمسة أنواع: هي بالتّرتيب: الكتاب، السّنة إذا ثبتت، وإجماع الفقهاء، وفيما ليس فيه كتاب ولا سنّة، ورأي بعض الصّحابة، واختلاف آراء الصّحابة في المسألة الواحدة، ويؤخذ منها ما هو أقرب إلى الكتاب والسّنة.( 13 )
و قد كان الشّافعي على علم بعلم الكلام، ولكنّه كان كفقهاء عصره يبغض علماء الكلام وكلّ مشتغل بهذا العلم. وكان رأي الشّافعي قاس في هذا الحقل العلميّ، بل كان رأياً خطيراً ومتعصّباً، إذ ينسب إليه أنّه قال لأصاحبه: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل منكسين، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة، وأخذ في الكلام". وبغض الشّافعي لعلماء الكلام وصل لدرجة أنّه كان لا يعدهم علماء، إذ قال: "لو أنّ رجلاً أوصى بكتبه من العلم، وفيها كتب الكلام، لم تدخل كتب الكلام في تلك الوصيّة".
ومع ذلك فإنّ الشّافعي تحدّث في بعض ميادين علم الكلام. ولكنّ حديثه كان حديث الفقيه الذي يستخدم العقل والنّقل. وقد رأى الشّافعي أنّ كلام الله غير مخلوق واعتقد برؤية الله يوم القيامة، ويؤمن بالقضاء والقدر خيره وشرّه، ويرى أنّ الإيمان تصديق وعمل، وأنّه يزيد وينقص بزيادة العمل ونقصه. ورأى أنّ الإمامة في قريش.( 14 )
ولعلّ ما جعل الشّافعي يبغض علم الكلام هو كون هذا العلم "ميدان خطر"، مقلق، يؤدّي إلى عواقب وخيمة. وهذا يتبيّن من قوله لأصحابه: "إيّاكم والنّظر في الكلام فإنّ الرّجل لو سئل عن مسألة في الفقه، وأخطأ فيها، كان أكثر شيء أن يُضحك منه، كما لو سئل عن رجل قتل رجلاً، فقال: ديّته بيضة، ولو سئل عن مسألة في الكلام، فأخطأ، نسب إلى البدعة". وقال: "رأيت أهل الكلام يكفّر بعضهم بعضاً، ورأيت أهل الحديث يخطّئ بعضهم بعضاً، والتّخطئة أهون من الكفر".( 15 )
وهذا القول يصدق في بداية ظهور علم الكلام، إذ إن المتكلّمين كانوا مقاتلين كالخوارج وغلاة الشّيعة وغيرهم.
المبحث الرّابع: أحمد بن حنبل
ولد أحمد بن حنبل عام 164 من الهجرة النّبويّة بمدينة بغداد. وقد نشأ الإمام أحمد يتيماً. وقد حفظ القرآن في صباه، ثمّ أخد يتردّد على الدّيوان ليتمرّن على الكتابة والتّحرير. وبعدها اتّجه أحمد إلى طلب العلم وكانت بغداد آنذاك منارة لعلوم الدّين واللّغة والرّياضة والفلسفة والتصوّف واختار أحمد علم الحديث وبه بدأ ثمّ أردفه بطلب الفقه.(16)
وقد جلس الإمام أحمد للتّحديث وللإفتاء في سنّ الأربعين. ولم يكتب إلاّ الحديث، وبعض الأبواب في الفقه. وكان الإمام أحمد يكره الفتوى بالرّأي ويكره الابتداع في الدّين وكان يرى ما رآه السّلف. لهذا فهو يعتبر إمام الأتّباع. وقد أخذ الإمام أحمد بالمصلحة إن أعوزه النّص أو الأثر المتبع. وكان يكثر من الأخذ بالذّرائع. والأصول التي بني عليها الإمام أحمد فتواه هي: "النّصوص، ثمّ ما أفتى به الصّحابة، ثمّ الاختيار من بين ما اختلف فيه الصّحابة، ممّا هو أقرب إلى الكتاب والسّنة، ثمّ الأخذ بالحديث المرسل، والحديث الضّعيف، ثم بالقياس عند الضّرورة القسوة".(17)
إن موقف الإمام أحمد بن حنبل من علم الكلام موقف قاس. فقد كان الإمام ينهى النّاس عن الكلام. وقد كتب أحمد إلى رجل يسأله عن مناظرة أهل الكلام: "أحسن الله عاقبتك، الذي كنّا نسمع، وأدركنا عليه من أدركنا، أنّهم كانوا يكرهون الكلام أي علمه، والجلوس مع أهل الزّيغ. وإنّما الأمر في التّسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله لا يعدون ذلك".(18)
وهكذا فإنّ أحمد كان يرفض التّفكير في العقيدة بالتّفلسف فيها. وينسب إليه أنّه قال: "تجنّبوا أهل الجدال والكلام، وعليكم بالسّنن، وما كان عليه أهل العلم قبلكم، فإنّهم كانوا يكرهون الكلام، والخوض من أهل البدع".(19)
وكان يقول: "لا يفلح صاحب الكلام أبدا" و"علماء الكلام زنادقة" وأيضا: "لا يرى أحد نظر في الكلام إلاّ وفي قلبه دغل".(20)
بسبب هذه الآراء التي تنسب للإمام أحمد بن حنبل وقعت المحنة الكبرى للإمام. هذه المحنة التي أثّرت أيضاً على المدرسة الكلاميّة المعتزليّة التي تعصّبت لفكرة خلق القرآن. والجدير بالذّكر أنّ هذا التعصّب انتقده بعض المعتزلة أنفسهم مثل الجاحظ وبدأت محنة الإمام أحمد عندما طلب المأمون من محدّثي عصره القول بأنّ القرآن مخلوق وبأنّه محدث. فأبى أحمد ذلك القول، وأصرّ على أنّ القرآن ليس بمخلوق وليس بغير مخلوق وبأنّه كلام الله. وهكذا توقّف أحمد لأنّه لم يؤثر عن السّلف كلام في هذه المسألة. واستمرّت محنة الإمام أحمد بن حنبل في عصر المعتصم وفي عصر الواثق. ولم تنته إلاّ في عصر المتوكّل الذي أوقف الاضطهاد وحارب الاعتزال وعندئذ عاد أحمد عزيزاً مكرّماً.
كان الإمام أحمد يرفض الخوض في علاقة القدر بأفعال الإنسان، فذلك أمر في علم الله، ولم يكن يبحث عن كنه صفات الله ولا عن حقيقتها. وكان يؤمن برؤية المؤمنين لله يوم القيامة إيماناً كاملاً دون تأويل. وكان يرى أنّ الإيمان قول وعمل وأنّه يزيد وينقص.
وتعتبر اليوم المدرسة السّلفيّة الإمام أحمد بن حنبل أهمّ فقهائها. والواقع أنّ أتباع مذهب أحمد من العلماء كانوا متعصّبين بسبب المحنة التي نزلت بإمامهم. ولهذا فقد اضطر الخلفاء إلى محاربة هذا المذهب لتعصّب معتنقيه من العامّة. وقد انتشر المذهب الحنبلي أوّل انتشاره في العراق ثم ضعف بسبب الفتن التي أثارها أتباعه. وقد ظلّ مذهباً محدود الانتشار طيلة قرون من الزّمن، ولكنّه في العصر الرّاهن انتشر بشكل كبير في بلاد الحجاز التي اتّبعت المذهب الوهّابي الذي يعتبر صدى لمذهب ابن تيمية والذي بدوره صدى وامتدادا لمذهب الإمام أحمد بن حنبل.
في الختام يمكننا أن نخلص إلى أنّ موقف الأئمّة الأربعة من علم الكلام موقف قاس. وإنّه من الغريب أن يقف الفقهاء الأربعة ضدّ علم الكلام، رغم أنّ هذا العلم، وخصوصاً مع المعتزلة، كان غايته الدّفاع عن الدّين ضدّ الفرق الضالّة سواء كانت إسلاميّة أو من دين آخر.(21)
ودون أدنى شكّ فإنّ رأي الأئمّة الأربعة في علم الكلام أدّى إلى ازدراء هذا العلم من طرف العوام وباقي العلماء من الفقهاء أنصار المدارس الفقهيّة الأربعة. وعلاوة على ذلك، فإنّ ما جعل علم الكلام يتعرّض للتّشويه هو ضياع أغلب الكتابات الكلاميّة، كما أنّ نقل أقوال وأفكار علماء الكلام كان يتمّ عن طريق خصومهم، وبالتّالي فإنّ رأيهم وفكرهم كانا يتعرّضان للتّحريف. بل وفي أحيان كثيرة للازدراء والسّخريّة. ومثال هذه السّخرية المبطّنة رواية القاضي التّنوخي أنّ من بركة المعتزلة ـ وهي من أنضج الفرق الكلاميّة ـ أنّ صبيانهم لا يخافون الجنّ.(22)
وممّا تعجّبت له أثناء بحثي هذا عن موقف الأئمّة الأربعة من علم الكلام هو أنّي عثرت على موقف قاس من هذا العلم ورد في أحد مؤلّفات شخصيّة أدبيّة وفلسفيّة شهيرة اتّهمت بالزّندقة في حياتها وبعد موتها. إنّه أبو حيّان التّوحيدي الذي يذكر ما يلي: "والكلام كلّه جدل ودفاع، وحيلة وإيهام، وتشبيه وتمويه، وترقيق وتزويق، ومخاتلة وتورية، وقشر بلا لبّ، وأرض بلا ريع، وطريق بلا منار، وإسناد بلا متن، وورق بلا ثمر، والمبتدئ فيه سفيه، والمتوسط شاك، والحاذق فيهم متّهم؛ وفي الجملة آفته عظيمة، وفائدته قليلة".(23)
وعلى كلّ فإنّ هذه الآراء القاسية في علم الكلام لا تمثّل موقف الإسلام كدين من هذا العلم، وإنّما تمثل رأي فكر وتوجّه مدارس فكريّة معينة من الإسلام. ذلك أنّ رأي علماء الكلام في علمهم رأي مخالف تماماً لرأي الفقهاء الأربعة، والفقهاء عموماً، إذ أنّهم - أي المتكلّمون- أكّدوا "أنّ الكلام هو العلم الشرعيّ الأعلى والأشرف لأنّه ينظر في أعمّ الموجودات وأجلّها، ولأنّه هو الضّابط لأُسس العلوم الدّينيّة الأخرى وقواعدها.(24)
الهوامش :
1 ـ محمد بوهلال، إسلام المتكلّمين، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر بيروت، ورابطة العقلانيين العرب، الطّبعة الأولى 2006، ص 14
2 ـ محمّد بوهلال، المرجع نفسه، ص 16
3 ـ محمّد بوهلال، المرجع نفسه
4 ـ محمّد بوهلال، المجرع نفسه، ص 7
5 ـ سليمان فيّاض، الأئمّة الأربعة، كتاب الدّوحة، وزارة الثّقافة والفنون والتّراث ـ دولة قطر، ص 16
6 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 58- 59
7 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 58
8 ـ رشيد الخيّون، جدل التنزيل مع كتاب خلق القرآن للجاحظ، منشورات الجمل، ص101
9 ـ سليمان فيّاض، الأئمّة الأربعة، مرجع سابق، ص 20
10 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 103
11 ـ آرثور سعدييف، توفيق سلّوم، الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، دار الفارابي بيروت، الطّبعة الأولى 2000، ص 40
12 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 96 و97
13 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 132
14 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 127 و128
15 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 126 و127
16 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 144
17 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 173
18 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص،151
19 ـ سليمان، المرجع نفسه، ص 165
20 ـ آرثور سعدييف، توفيق سلوم، الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، مرجع سابق ص 40
21 ـ سليمان فيّاض، المرجع نفسه، ص 127
22 ـ " فهم لم يقروا تلك العجائبيّة، وحاولوا تقريب النّاس من الدّين بالعقل لا بخيال منفلت في عالم الماوراء " ـ انظر: رشيد الخيون، جدل التنزيل مع كتاب خلق القرآن للجاحظ، منشورات الجمل، ص 118
23 ـ حسن السندوبي أبو حيّان التّوحيدي، المقابسات، ، دار سعاد الصباح الطبعة : الثانية، 1992 ص 194
24 ـ محمّد أبوهلال إسلام المتكلّمين، المرجع سابق، ص 22