قراءة في تاريخ النقود وحال عملتنا الوطنية.. واقع (الريال) يكشف حجم الفساد الذي طال كل شيء
> العملة النقدية ـ أكانت ورقية أو معدنية ـ في أي بلد تمثل السيادة لذلك البلد وهي رمز عزة أي وطن من الأوطان، وفي بلدنا نجد الشيء العجيب في مستوى وجودة عملتنا الوطنية، ومن خلال تعاملنا مع عملة الريال الورقية بكل فئاتها نكتشف قمة مفرطة من الفساد الذي طغى على كل مقومات حياتنا، فقد أفسدوا العلم والتعليم، وأفسدوا القضاء وأفسدوا التجارة والصحة، وغيرها من المجالات والتعاملات اليومية.
أعود إلى مسألة الفساد في عملتنا الوطنية، وتأملوا معي هذه العملة الورقية التي ما أن تلمسها حتى تجد ورقتها تذوب بين يديك من رداءة الورق الذي طبعت عليه هذه العملة من قبل القائمين على الأمر، ونجد هنا ونكتشف مدى استهتار هؤلاء ومدى خيانتهم لأمانة المسئولية عندما يذهبون إلى الخارج ويتعاقدون على طباعة العملة فيختارون أردأ الورق وأرخصه سعراً ليلهفوا الملايين إلى جيبوهم وينزلون أوراق عملة لا تحمي نفسها حتى من الشمس أو الريح، وكم نجد من تجار ومواطنين يشكون من تعرض العملة الورقية للتقطع والتلف.
تعالوا نعود قليلاً إلى الماضي ونتذكر عملتنا الدينار الجنوبي حيث كان البعض إذا ترك في جيبه ديناراً أو خمسة أو 500 فلس ورقية وقامت زوجته بغسل قميصه أو بنطلونه ونشر الغسيل فتكتشف أن هناك نقودا ورقية تم غسلها من الملابس فتخرجها وهي بحالة سليمة لم تتأثر، ويتم تداولها وكأنها أوراق جديدة، أما اليوم فحدث ولا حرج، فالريال الورقي إن غُسل مع الملابس فلن تجده إلا فتاتا ترمي به في الزبالة، أضف إلى ذلك أن بعض الناس يستخدم هذه العملة لكتابة مذكراته وكل ما يخطر على باله استهزاء بهذه العملة، ولنا في العملات العالمية خير شاهد فمثلاً الدولار الأمريكي لا يمكن أن يقبل صرفه إذا حدث فيه شيء يسير من التمزق أو كتابة كلمة على ظهره، وكذلك هو الحال بالنسبة للعملات الأخرى في العالم المتحضر وعدد من دول العالم العربي مثل الكويت والسعودية والإمارات وغيرها، فهذه دول تحترم عملتها وعندنا هو العكس.
**العملات السائدة دوليا**
سنحاول في هذه التناولة توضيح تاريخ النقود فنقول في كل عصر تكون هناك عملة سائدة، يمكن تداولها في بلادها وخارج بلادها، وقد قرأنا عن العملات في الحضارتين اليونانية والإسلامية واستخدام العملات في بلدان الإمبراطوريات المختلفة.
وفي القرن التاسع عشر كان الجنيه الإسترليني الذي صدر في المملكة المتحدة هو العملة الدولية الأجنبية الأولى في العالم.
ولم تبدأ سيطرة الدولار الأمريكي إلا في القرن العشرين، أما اليوم فقد دخلت عملة اليورو التي تتداول بها بلدان أوروبا حيز المنافسة، السياح المسافرون يستخدمون العملات العالمية السائدة (الجنيه الإسترليني، أو اليورو أو الدولار الأمريكي) في أداء المعاملات في فنادق ومتاجر العالم، الكثيرون من المسافرين والتجار اليوم لا يحملون نقوداً ويكتفون باقتناء بطاقات ذكية تصدرها البنوك يمكن الدفع بها وسحب الأموال من أي مكان في العالم.. وهذه البنوك تربط بشبكة الإنترنت مع كبرى الشركات والفنادق ومنافذ سحب النقود.
**ما هي أشكال النقود القديمة**
تقول الكاتبة (أميرة غريب) في كتيب أصدرته في مجلة العربية الكويتي عام 2009م بعنوان (تاريخ النقود): يختلف شكل النقود اليوم عن شكلها في الماضي، فإذا كانت النقود تصنع حالياً من الأوراق والمعادن، فقد صنعها القدماء في عصور مختلفة وأماكن متعددة من خامات غير مألوفة، فقد استخدموا الريش والمحار وحبوب الكاكاو مثلما استخدموا الفضة والذهب وأوراق النقد، فحين يزور المرء متاحف تاريخية يجد في أقسام منها عقوداً من الريش والأصداف أو أساور من اللآلي، أو قلائد من أسنان الحيوانات قد يكون بعض هذه الأشياء أستخدم للزينة ولكن من المؤكد أن بعضها استخدم لقيمته المادية، فلم تكن هذه الأشكال سوى نقود بدائية بسبب قيمتها المادية في ذلك الزمن.
**المقايضة وتبادل السلع**
أكد المفكر اليوناني القديم أرسطو قبل أكثر من 2000 سنة أن الناس قبل استعمال قطع النقود المعروفة في عصره كانوا يتبادلون الهدايا، ويسمونها (مينادوسيس).
وكانوا يعطون ما يتوافر لديهم مقابل ما يحتاجون إليه، هذا النظام اسمه (المقايضة) من بين المواد التي كانت تستخدم في المقايضة العنبر (الكهرمان) الذي وجد في أماكن غير الأماكن التي يستخرج منها، مما يدل على أنه كان يُحمل إلى مسافات بعيدة من أجل المقايضة.
وأخذ كل مجتمع ينتج سلعا (بضائع) بهدف المقايضة، فهناك من ينتجون الفؤوس الحجرية أو قضبان الملح أو أواني الفخار، ثم يأخذون هذه السلع من أماكن إنتاجها إلى أسواق أخرى ليأخذوا مقابلها سلعاً يحتاجون إليها.
**تصميمات النقود الأولى**
كانت صور الآلهة التي تؤمن بها الشعوب القديمة وصور حكام تلك الإمبرطوريات ترُسم على وجه النقود التي كانت تصك من المعادن المختلفة، ثم أضيفت بعد ذلك تصميمات تضمن صدور العملات في مناسبات رياضية وسياسية مثل الألعاب الرياضية الأولمبية وتحركات الجيوش، وبعد غزوات القائد الحربي اليوناني الإسكندر الأكبر وحملاته العسكرية إلى إفريقيا وآسيا استولى على كنوز معدنية كثيرة، تم تحويلها إلى نقود، كانت إمبراطورية روما في قارة أوروبا تستخدم سبائك من البرونز لصناعة النقود، وفي القرن الثالث (ق.م) بدأت تصك (تصنع) عملاتها الخاصة، ومنها ما صنع من الذهب الخالص، وبسبب الحملات الحربية اليونانية وتوسع نفوذ الإمبراطورية الرومانية انتشرت النقود في بلدان وحضارات أخرى، ويعود ظهور القطع النقدية الأولى (العملات) إلى القرن السابع قبل الميلاد، وكان ظهورها في آسيا الصغرى وفي اليونان، وتحولت صور النقود البدائية، مثل التي كانت في الهند عبارة عن مربعات معدنية عليها نقوش ورسوم إلى عملات معدنية حقيقية.
**نقود تنمو على الأشجار**
وجاء في كتاب (تاريخ النقود) للكاتبة أميرة غريب أن البحارة الأسبان الذين سافروا لاكتشاف القارة الأمريكية ووصلوا إلى المكسيك وكانوا يسمون الغزاة (الكونكويستادور) دهشوا حين رأوا في تلك البلاد أن حبوب الكاكاو تستخدم كعملة نقدية في البيع والشراء، كانت الكاكاو تزرع في ثلاث مناطق، شونتاليا وسوكونوسكو بالمكسيك، وحوض نهر أولوا بالهندوراس، وإنتاج حبوب الكاكاو الثمينة كان بإشراف أصحاب الأراضي النبلاء، وكانت تكلفة إنتاجه كبيرة، لذا كانت قيمته مرتفعة قياساً بباقي السلع الأخرى، وكانت شحنات حبوب الكاكاو تخزن في دور تشبه خزينة الدولة أو البنك المركزي كما هو حالياً، وكانت إمبراطورية الأزتك التي حكمت وادي المكسيك تبسط نفوذها على الشعوب في 38 إقليماً، وكان إقليم سوكونوسكو يسهم بما مقداره 400 قدر من الكاكاو من مجمل الضرائب على كل الأقاليم التي تصل إلى 980 قدراً.
**بيوت الحلزون .. نقود من الأصداف**
كما هو معروف أن الحلزون حيوان بحري رخو يوجد في المناطق البحرية الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي، وتعيش حيوانات الحلزون في بيوت من الأصداف ولها أشكال متنوعة وأطوال مختلفة وتصميمات رائعة، ويبلغ عددها 300 نوع، وقد استخدمت الأصداف في قارة أفريقيا مثل النقود في مملكة الكونغو (غرب قارة أفريقيا) كان أكثر الأنواع استخداماً يسمى (أوليفانسيلاريانانا) وكان يجمع بالقرب من المنجم المالي لملوك الكونغو قبيل وصول البحارة والمستعمرين البرتغاليين إلى هذه المنطقة الأفريقية في أواخر القرن الخامس عشر، واستعملت شعوب حوض نهر الكونغو هذه الحلزونات في المبادلات التجارية، كما أن الأصداف استعملت كالعملات قديماً في أفريقيا وقد استمر استخدام القواقع والأصداف حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
**النقود العربية**
في بداية القرن السابع الميلادي، وفي عصر الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن للعرب نقود يستخدمونها وإنما استخدموا المقايضة، وكانت الجمال (الإبل) للبدو في الصحراء هي معيار الثراء، وفي المدن التي كانت تزدهر بها التجارة مثل مكة المكرمة، والمدينة المنورة، حيث كانت تأتي إليها القوافل في الشتاء والصيف، استخدمت العملات الأجنبية مثل الذهب البيزنطي والفضة الفارسية لإبرام الصفقات المهمة، وبعد الفتوحات الإسلامية وضم سوريا وفلسطين ومصر إلى الإمبراطورية الإسلامية، بعد أن كانت تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية في أوروبا، وضم الممالك الآسيوية في الشرق التي كانت تخضع لإمبراطورية الفرس الساسانيين اعتمد المسلمون النقود التي كانت تستخدم هنا وهناك، بعد أن أضافوا إليها عبارة (بسم الله) باللغة العربية.
**مولد الدينار والدرهم والفلس**
في عام 696م أي في أواخر القرن السابع الميلادي، بدأ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أولى خطوات صك نقود بنقوش عربية، وقد استخدم ذلك النظام في كل أرجاء الدولة، وكان هناك الدينار الذهبي وزنه (4.3 جرام) استخدم في الصفقات المهمة والتجارة الضخمة واستخدم الدرهم الفضي (2.8 جرام) في دفع المرتبات والضرائب، واستخدم الفلس النحاسي في شراء الحاجات اليومية، وقد تغيرت أسعار العملات الثلاث بتغير أسعار المعادن (الذهب والفضة والنحاس) المصنوعة منها، في البداية كان الدينار الذهبي يساوي عشرة دراهم، ولكن قيمته ارتفعت حتى وصل إلى 20 درهماً في بعض الأوقات، وكانت قيمة الدرهم متقلبة، فأحيانا تصل إلى 16 فلساً وأحياناً ترتفع إلى 24 فلساً نظراً لاختلاف وزنه من منطقة إلى أخرى، وجاء الدينار خلفاً ومنافساً للسويدوس البيزنطي وأخذ اسمه من (الدينار ديوس) اللاتيني، واستمد الدرهم شكله واسمه من (الدراخمة) الفارسية، وكان الفلس الترجمة العربية للفوليس البيزنطي، وكانت الدنانير في البداية تصك فقط في دمشق عاصمة الأمويين، وكانت الدراهم تصك في دمشق ومدن الحضارة الإسلامية الكبرى، مثل قرطبة (في أسبانيا) والسند (في باكستان) وبلخ (في أفغانستان).
وفي القرن الثالث عشر الميلادي جاءت غزوات جيوش المغول تدمر الشرق الإسلامي، وسرقت مدينة بغداد وانهار نظام الدينار الذي أسسه الخليفة عبدالملك بن مروان وأخذ كل بلد يصنع نقوده الخاصة، ولم تظهر نقود مشتركة بين دول المسلمين إلا عندما أنشئت الإمبراطورية العثمانية، وكان النقد العثماني يتكون من (الأكتش) المصنوع من الفضة، وقد استخدمت هذه النقود في الجزائر إلى تركيا وبلاد البلقان ولم تكن النقود العثمانية صورا بل تحمل نقشاًَ بخط (الطغراء) بأسماء السلاطين وألقابهم، وانهار هذا النظام بعد تدفق الفضة القادمة من المناجم الأمريكية الجنوبية التي اكتشفتها أسبانيا.
**تزييف النقود**
حتى لا تفقد النقود قيمتها، يجب أن تكون سليمة في الوزن والمكونات، فإن لم تكن كذلك فهي نقود مزيفة، حيث كان في الماضي من السهل تزييف النقود لأن صناعتها وصكها كان سهلاً، أما اليوم فيمكن التحقق من سلامة العملات المعدنية والورقية بأجهزة خاصة تجعل من السهل اكتشافها، فحين تزور البنوك ستجد الصراف يمرر ورقات النقد الأجنبي مثل اليورو والدولار الأمريكي في ماكينة كشف تضيء وتصدر صفيراً إذا كانت العملة غير سليمة.
**عملتنا الوطنية**
وعودة إلى قضية واقع وحال عملتنا الوطنية (الريال)، نقول إن التعامل مع هذه العملة من قبل البعض تعامل مشين لا يعكس أي مستوى من الحضارة والمسئولية الوطنية باعتبار أن هذه العملة تعتبر رمزاً لحضارة شعبنا ومدى وعيه وإدراكه، حيث نجد من يسيئون استخدام الأوراق النقدية من خلال تمزيقها أو الكتابة عليها فيتم تداولها من شخص إلى آخر بصورة مهينة وغير لائقة وتنتهي الملايين من الأوراق إلى محرقة المصرف المركزي، الأمر الذي يكلف الدولة أعباء مالية إضافية هي في غنى عنها.
وهنا لابد من تحديد المسئولية ووضع الضوابط الصارمة تجاه كل من يسيء إلى عملتنا الوطنية أسوة بما تسلكه الكثير من بلدان العالم، ولنا في الدولار الأمريكي خير مثال فإن أي تمزيق أو عبث بأوراق الدولار لا يتم قبولها أو التعامل بها، الأمر الذي يجعل الجميع حريصين أشد الحرص على الحفاظ على هذه الأوراق نظيفة ولائقة.
قد يقول قائل إن أوراق عملتنا الوطنية الريال لا ترتقي إلى مستوى وجودة العملات الأخرى المعتمدة في العديد من بلدان العالم، وأن القائمين على طباعة أوراق العملة لا يحرصون على اقتناء الأوراق المتينة التي تدوم طويلاً وتقاوم أي تلف أو تمزق وهذا مهما كان صحيحا إلا أنه لا يعفي المواطن من تحمل المسؤولية في الحفاظ على أوراق العملة.
وبرأيي الشخصي أن هناك جملة من الإجراءات والتدابير التي يمكن اتخذاها للحد من هذه الظاهرة، ومن ذلك عدم قبول أية عملة ممزقة أو مكتوب عليها، وبهذا سيجد المواطن نفسه مجبراً على الحفاظ على أوراقه النقدية.. كما إننا نناشد الجهات المسئولة الوقوف بمسوؤلية وطنية لما من شأنه طباعة العملة بأوراق متينة ولائقة ومشرفة.
* عن الأيام