المتعارف عليه أن أي دستور يبدءا العمل به في أي بلد يؤسس لعقد اجتماعي جديد، فهو يجدد شكل الدولة ويبين حقوق الأفراد وينظم السلطة في الدولة من حيث وجودها واختصاصاتها والعلاقة بينهما، ويوضح الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، ودور الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتنظيم النشاط الاقتصادي بما يحقق التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع.
فإنجاز مسودة الدستور الجديد في اليمن، يعد ثمرة من ثمار الحوارات والجهود المضنية التي بذلها أعضاء مؤتمر الحوار الوطني وحوارات سابقة، بما شهدته من شد وجذب واعتراض حول كثير من القضايا والمشكلات التي كانت أهم الأسباب للانخراط في مرحلة جديدة تطوي مآسي المراحل السابقة.
فهو يؤسس لعقد اجتماعي جديد باعتباره خلاصة التوافق حول الحلول لتلك القضايا، ومرجعية ضامنة يحتكم لها الجميع تمنع تكرار بروز القضايا والمشكلات والصراعات الدموية، وتنظيم إدارة شؤون البلد وفق المبادئ والأسس المتفق عليها مسبقاً.
مثل هذه الدساتير كمسودة الدستور اليمني الجديد التي يتم التحضير والإعداد لها بمستوى عال من النضج السياسي والحقوقي وبإشراف دولي، لا يمكن أن تنجز أو ترى النور، من دون ما يدور حولها الجدل أو تتعرض للابتزاز السياسي طالما ستصبح الأداة الضابطة لبناء الدولة المدنية القادمة، وتضمن الحقوق المتساوية للمواطنين فيها،وسن قوانين أكثر فاعلية لرفع اداء الأجهزة الرقابية لضمان مكافحة الفساد، وتفعيل دور مؤسسات الدولة والمجتمع في تأصيل قيم النزاهة والشفافية والحكم الرشيد، وتجريم استغلال الوظيفة العامة للمصالح الخاصة.
المتتبع لكافة المراحل التي تمر بها عملية التسوية السياسية في اليمن سيجد أنه عند اقتراب موعد أي انجاز من برامجها سرعان ما تبرز على المشهد السياسي عوامل التأثيرات لإعاقته من قبل الأطراف واللاعبين في الملعب السياسي، وتزداد وتيرة ابتزازهم السياسي للأخ الرئيس عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية، وممارستهم الضغوط السياسية والأمنية عليه، بل أن المرء لا يتصور بأن تصل مستوى وطنية بعض القوى إلى مستوى الانحطاط السياسي بغية الحصول على منافع شخصية.
بالأمس كشفت تلك القوى عن نواياها وابتزازها اثناء التوقيع على وثيقة المبادرة الخليجية، وكذا عند التوقيع على وثيقة مخرجات الحوار الوطني، مع التأكيد ان المخرجات لم تحسم القضايا الخلافية، ولا تزال قائمة فيما يتصل بالحلول للقضية الجنوبية، وشكل الدولة والعدالة الانتقالية، وفي الأيام القليلة الماضية حاولت تعطيل البرلمان وتحريضه بعدم منحة الثقة للحكومة.
اليوم نفس القوى التقليدية تعاود من جديد ممارستها الابتزاز السياسي، باستخدامها كل أدواتها الضاغطة السياسية والأمنية والإعلامية، للظفر بمكاسب سياسية تؤمن لها بقاء واستمرار مصالحها الخاصة قبل ان يحّل موعد الانفراج المرتقب، وتحاول لي ذراع الشعب اليمني والأخ الرئيس عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية استباقاً للتنصل والمساومة بالمطالب المستحيلة نظير القيام بواجبها الوطني والمشاركة في الاستحقاق القادم، الذي يتطلب شراكة وطنية فاعلة وراسخة بين كل القوى دون إقصاء أحد منها.
وان تستند هذه الشراكة إلى أُسس ومبادئ عادلة من دون وضع أي سقف لحلول القضايا العالقة وفي مقدمتها القضية الجنوبية، بل وإبقاء مراحل وفرص الحلول مفتوحة، لاستعادة ثقة الجنوبيين بالقبول بالحلول، حتى وان كانت مرحلية لتحقيق ما يرتضيه أبناء الجنوب، وعدم تكرار فرض الحلول الجاهزة، كما حصل عند اختتام الحوار الوطني، لاسيما بعد ان اثبت الواقع شمالاً وجنوباً، ان الوصول إلى تحقيق الاستقرار السياسي والأمن يتطلب تنازلات سياسية مؤلمة من كل الأطراف السياسية وقبلها الشعب اليمني، الذي أصبح ينظر إلى اعطاء الأولوية لمسألة الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والابتعاد عن العواطف والشطط في التمسك بالأهداف التي بفرضها يستحيل ان نؤمن ونضمن الطريق للوصول لتحقيق الاستقرار، بل ان عدم اعترافنا بهذه الحقائق نتحول بأفعالنا ومواقفنا معيقين لبناء الدولة الاتحادية وتحقيق السلام والاستقرار في الشمال والجنوب، وهنا علينا أن نعترف مع أنفسنا أن حسم شكل الدولة ينبغي أن يكون ضامناً لتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي وفق الديمقراطية التشاركية سواء في الجنوب أو الشمال.. والتخلي عن التشبث بأي شكل قد يعيد تكرار إنتاج الأزمات، والنهب والفساد، والحروب والصراعات الدموية في اليمن.
الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، بعد ظهور مؤشرات ومخاوف من اعتزام تلك القوى التقليدية والتكتلات الاقتصادية في الشمال والجنوب تدشين مرحلة جديدة من الابتزاز السياسي والأمني لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية ومحاولة سعيها لضمان حسم مصالحها قبل أي استحقاق قادم.
قد لا نستغرب إن رأينا في الأيام القادمة انحطاط تلك القوى لنقل ابتزازها السياسي من طور مساومة الداخل مقابل الحصانة إلى طور مساومة الخارج مقابل (السلام) وأن تصل الجرأة بها، لتستخف بجميع أبناء الشعب اليمني والداخل والخارج، وتضع مسودة الدستور الجديد في ميزان ابتزازها السياسي لتحقيق حلمها "تعليق العقوبات. "