مقدمة
عندما تفكر بالغايات يجب ان لا تتجاهل الوسائل .. نهرو
مر تاريخ الثلاثين من نوفمبر مروراً صاخباً حاملاً في ثنايا ساعاته التي مرت ثقيلة على المحتل اليمني حجماً هائلاً من تلك النتؤات التي تقرأ في سياقها بين السياسة والتحليل فيما وراء السياسة من مضامين أخرى .. الأهم أن القضية الجنوبية حققت انعطافاً في مسيرتها نحو التحرير والاستقلال .. ونحو الاستقراء الصحيح فيما هو ذلك الاستقلال ..
الحالمون لا يصنعون .. وطناً
عندما نستعيد مشاهدة الفيلم الأسطوري (Braveheart) ونتعاطى مع مشاهدة ويليام والاس بكل ما استطاع أن يقدمه الممثل الأمريكي ميل جيبسون من دراما استعادة حقبة تاريخية محددة من صراع الاسكتلند الراغبين في استقلال بلادهم عن المملكة البريطانية ، ذلك الفيلم المشمول برغبة الحرية والكرامة التي مثلها ويليام والاس والذي أعدم في عام 1305م تشابه تماماً رغبات شعوب كثيرة ظهر فيها الشجعان وأعدموا وسارت بلادهم إلى حريتها مع عزيمة شعوبهم في أن تنتزع حقوقها الكاملة في الحياة ، قتل ويليام والاس وبقيت حكايته تتوارثها الأجيال وانتهت الأسطورة في سبتمبر 2014م عندما ذهب الشعب الاسكتلندي إلى الاستفتاء الأخير ليقولوا نعم للبقاء في المملكة البريطانية المتحدة بأغلبية قتلت ذلك المقاتل الشجاع مرة أخرى بعد عشرات سنين من إعدامه الأول ..
كان لابد وأن نستفتح بهذا مقدمة للزعيم نهرو ، ومرور سريع على ويليام والاس صاحب القلب الشجاع لندخل إلى القضية الجنوبية من الضبابية التي تسكنها بعد أن صنع الجنوبيين في 14 اكتوبر أول حقيقة على الأرض هي الاعتصامات المفتوحة في عدن والمكلا ، ذلك ما صنعه الجنوب لم يكن سوى الفعل الأصح قولاً وعملاً ، فالاعتصامات هي التي سيتعاطى معها العالم والاقليم وأيضاً المحتل لأنها موجودة على الأرض وليست مجرد مسيرات تمر في الشوارع يرتد صوتها الهادر إلى أذان أصحاب الحناجر الصارخين بالحرية والاستقلال ..
التاريخ سيكتب تواريخ محددة المعالم ، 27 ابريل 1997م انتفاضة المكلا ، 14 اكتوبر 2006م قسم أحمد بن فريد بحُرمة الدم الجنوبي ، الأول من سبتمبر 2007م انطلاق الحراك الشعبي من المكلا ، 14 اكتوبر 2014م اعتصام شعب الجنوب المفتوح ، وغيرها من تواريخ تكتب في مسيرة النضال الوطني لشعب الجنوب ، هذا ما سيذكره التاريخ والذي نكذب عليه كلما سردنا تاريخنا بخطاياه الكبرى متجاهلين ما يجب أن يكتب بحقيقة الحدث والتي صنعت المأساة التي فيها يعيش الشعب الذي أنصت لوعود التحرير والاستقلال في الثلاثين من نوفمبر ولكنها مرت وتركت الشعب مصاباً بحالة احباط واسع نطاقها ..
الاستقلال ..
القضية الجنوبية قدرها أن تعيش في نزاع بين الأقطاب الكبيرة في الاقليم المحيط بها ، هذه القضية ليست مشكلتها صنعاء وحدها بل تتجاوزها إلى الرياض وطهران وتصل أبعادها إلى واشنطن وموسكو وغير ذلك من العواصم ، ولكن في ظل كثير من الوجوم المسكون فينا نتساءل ها هنا عن الاستقلال الذي ننشده !! ونتطلع إليه منذ سنوات .. الاستقلال كمفهوم يجب أن يتجاوز التواريخ كلها ، صراعنا اليوم يجب أن يؤسس لمفهوم الاستقلال والحرية بمعنى كامل في الصحة والاعتقاد والتعبير ، فنحن لسنا بضاعة كاسدة في السوق ، بل جغرافيا واسعة النطاق سقطت وتهاوت في الثلاثين من نوفمبر 1967م ، فذلك لم يكن استقلالاً طبيعياً أو صحيحاً فالدولة اليمنية الجنوبية التي صنعتها أجهزة الاستخبارات المصرية والبريطانية في تعز لم تصنع دولة تحترم الإنسان بانتزاعها هويته وإلباسه الهوية اليمنية ..
الاستقلال يعني أن نقرر الانتماء إلى الأرض بجغرافيتها ، فالجنوب العربي الذي هو أساساً فكرة سياسية جامعة كان مشروعاً وطنياً يحاول أن يشكل من السلطنات والمشيخات دولة بالحدود الأقل التي تكفل انسجاماً بين تلك الشظايا الصغيرة لتضع خطوة أولى في بناء الدولة ، كذلك نشأت ماليزيا وغيرها من دول العالم ، لذلك ليس من الخطأ اليوم أن نعيد تشكيل عقيدتنا السياسية والوطنية بدرجة عالية من الوعي ناظرين إلى الأمام ونعي تماماً ما وقع من الخطأ الفادح مما مضى من تاريخنا السياسي ..
الاستقلال ليس رغبةً جامحة تسكن جماهير شعب ضاق ذرعاً بصنعاء وعصاباتها ، والاستقلال ليس منطلقاً متغولاً تجاه الذين صنعوا اليمن الجنوبية بعد أن فرطوا في حق الجنوب العربي سياسياً بإسقاطهم الجلاء البريطاني في التاسع من يناير 1968م وإسقاط حق التعويضات لمستعمرة عدن ، الاستقلال أمر مختلف عن كل تلك المرجعيات لأنه فرض سياسي مستحق أن يحصل عليه الإنسان ويناضل من أجله ، الاستقلال يعني باختصار إنهاء كل خطايا التاريخ ، والبدء في صناعة تاريخ جديد يكتبه جيل يعي ويدرك أن الوطن ليس بضاعة تباع وتشترى ، الوطن هو تجسيم عظيم لمعاني الحياة الكاملة باستقلال القرار في الهوية أولاً ثم فيما يتاح من خلال الوطن من ثروات بشرية تسمو فوق كل الثروات ..
الوطن يجيء .. حقاً
سقطت الهبة الحضرمية عندما لم ترتقي لواقع السياسة ، وسقطت أقاليم الوهم الستة لأنها لم تعترف بالواقع السياسي ، وسقط الداعون إلى استقلال نوفمبر 2014م لأنهم لم ينظروا إلى حقيقة المشهد السياسي بواقعية كاملة ، إذاً لا مكان لغير الحقيقة التي لابد وأن نتعامل معها ولنخرج من كل اللا واقع علينا أن نقرر ما هو الاستقلال الذي نريد لنعرف كيف نذهب إليه ..
الشائك في قضيتنا أننا نتمسك بالميراث المملوء بالخطايا ، قضيتنا يمكنها أن تكون متقدمة عن وضعها الحالي متى ما نحن قررنا تنظيم صفوفنا تحت قاعدة التحرير والاستقلال ، وليس من الصعوبة ذلك الفعل ، والذي يستوجب أن ننظر بوضوح إلى أهدافنا وغايتنا ونؤمن بقدرتنا على تحقيقها ، وبعيداً عن التنظير الإنشائي علينا أن نمنح الفرصة الكاملة لجزء منا قرر أن يتحمل المرحلة التاريخية ويسير بنا إلى المقصد المتمثل في التحرير والاستقلال ، ذلك الجزء هو "تيار مثقفون من أجل جنوب جديد" ، نعم هم لا ينتمون إلى أحزاب غرقت في المأساة ، ولا ينتمون إلى مرجعيات صنعت في تعز أو صنعاء ، هم شيء منا نحن من قضيتنا وجراحنا وأوجاعنا تحملوا مسؤولية المرحلة فلماذا لا نمنحهم الفرصة ..!!
الوطن يجيء مع مشروع صحيح كتب على ورق نظيف ، الوطن يجيء بملامح أخرى غير تلك الشاحبة منذ عرفناها ، الوطن يجيء برغم حجم المحبطات والعقبات ، يجيء بالمؤمنين به والقابضين على جمرة الاستقلال والمحترقين لأجل التحرير واستعادة دولة يكون فيه الإنسان أولاً لا الكرسي الذي يتربع عليه أحد ديناصورات التاريخ البائس , ما يمكننا أن نصنعه في ظل كل هذا هو أن نواصل الدفع تجاه الوطن ، وأن نصطف إلى جوار المتقدمين فعلاً وقولاً ، هذه هي مهمتنا التاريخية أما غيرها من المهمات فهي مجرد أوهام يصنعها الذين لا يريدون وطناً صحيحاً ، الخيارات تضيق أمام الجميع فإما الوطن ، وإما دوامة الاحتلال اليمني .. والعاقل الذي يختار أين يكون واقفاً ..
الوطن أو الدوامة ..