*- شبوة برس – هاني مسهور
في تاريخ جنوب شبه الجزيرة العربية، الممتد من حضرموت إلى عدن، ومن المهرة إلى أبين، لا يمكن فصل الحاضر السياسي عن الجذر الحضاري، ولا يمكن فهم الحالة الجنوبية كتيارٍ اجتماعي أو سياسي دون العودة إلى ما قبلها من تراكمٍ روحي وثقافي وجغرافي.
لقد كان الجنوب، منذ فجر الحضارات القديمة، جغرافيا تولِّد الفكرة قبل أن تنجب الدولة، فهو ملتقى القوافل والحضارات والمذاهب واللغات، فقد تداخلت هجرات القبائل من الشرق والغرب، وتكوّن في حضرموت واديان .. وادٍ للعقل وفقهه، ووادٍ للعاطفة وإيمانها، وبينهما نشأت هوية جنوبية هجينة ولكن متماسكة في آنٍ واحد، تستمد أصالتها من عمق التاريخ، وحداثتها من احتكاكها بالعالم.
يمكن القول إن رمزين مثل هاني البيض وهاني بن بريك يجسدان بصورة نادرة هذا الامتزاج الذي ميّز هوية الجنوب عبر القرون والأزمنة، فكلا الرجلين ليس مجرد شخصية سياسية أو دينية، بل هو نتاجٌ لتاريخٍ طويلٍ من التفاعل بين النسب والبيئة والمجتمع، أحدهما امتدادٌ للحركة القومية والسياسية التي تسعى لتثبيت مفهوم “الجنوب ككيانٍ سياسي حرّ”، والآخر يُعبّر عن التيار الدعوي والاجتماعي الذي يرى في الجنوب رؤية حضارية وهوية دينية ذات خصوصية، نشأت من تريم ومدارسها، وامتدت في وعي الأجيال الحديثة.
ينتمي كلٌّ من البيض وبن بريك إلى سلسلة من النسب الحضرمي والامتداد العدني–المهري الذي يعكس طبيعة التكوين البشري للجنوب، حيث التقت السلالة بالثقافة، وتزاوجت البداوة بالمدنية، فنتج عن ذلك ما يمكن وصفه بـالإنسان الجنوبي المزدوج الانتماء، بدويّ في جذره، حضريّ في رؤيته، عربيّ في انتمائه، وإنسانيّ في نزوعه.
إالامتزاج الذي يمثّله كلا الرجلين لا يمكن تفسيره خارج إطار التفاعل الحضاري الذي صنع الهوية الجنوبية السياسية وقبلها المعرفية، والذي جعل من تريم وعدن والشحر والمكلا وسقطرى محطات متصلة في خريطة واحدة تُعبّر عن هوية جامعة لا تختصرها الجغرافيا، فـهاني البيض يمثل صوت الجنوب السياسي الذي خرج من رحم التجربة الوحدوية والانفصالية، وعبّر عن الذاكرة الوطنية بمفهوم الدولة، بينما هاني بن بريك يمثل الوجه الآخر، الوجه الديني–المجتمعي الذي تشكّل في مدارس العلم الشرعي والتصوف، لكنه ينفتح على التحولات الحديثة ويقرأها بعينٍ حضرميةٍ متجذّرة.
وبين هذين الوجهين تتجسد جدلية الجنوب الكبرى .. الجنوب الذي يحاول أن يجد معادلةً بين الماضي والمستقبل، بين الولاء للأرض والانتماء للأمة، بين الخصوصية المذهبية والانفتاح الحضاري، فهما، على اختلاف المسارات، ابنان لذات الأرض ونتاج لذات الذاكرة، يعكسان (تنوّع الجنوب ووحدته في آنٍ واحد، ويعيدان تعريف الهوية الجنوبية لا بوصفها شعارًا سياسيًا، بل كـفكرة حضارية متوارثة تمتد من تاريخ المسند القديم إلى خرائط الجغرافيا الحديثة).
قراءة رموز الجنوب من زاوية النسب والامتزاج الحضاري، لا من زاوية الخلاف السياسي أو الديني، تتيح فهماً أعمق لحقيقة هذا الإقليم الذي كان وما زال مفترقًا للتاريخ وملتقىً للثقافات، حيث تصنع الجغرافيا السياسة، ويصوغ الإنسان التاريخ بحبر الأرض التي أنجبته.
القراءة في السردية الجنوبية وأن كانت تبدأ من ما جاء في كتاب الله العظيم مع نبي الله هود عليه السلام والأحقاف التي شكلت لونهم وهويتهم المتصلة قبائل العرب في شبه جزيرة العرب، جدير أن تقرأ السردية باعتبارها تفاعلات متراكمة لم يكن فيها علي أحمد باكثير أو حتى أبوبكر سالم بلفقيه