في ذكرى عشرية فزعة عيال زايد.. سلام على عدن

2025-03-22 00:58

 

​مع العشرية الأولى لتحرير عدن عام 2015، من الجدير استعادة لحظة الاشتباك بين المقاومة الشعبية والقوات اليمنية الغازية، فلقد كانت جزءا لا يتجزأ من تاريخ شبه الجزيرة العربية بكل ما في هذه المنطقة من تاريخ حضاري وسياسي.

 

وعدن المدينة التي طالما كانت رمزا للحياة والصمود، واجهت حصارا خانقا وقصفا مدمرا هدد بإنهاء وجودها كمركز في غزو يمني ثان عندما شنت قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح وجماعة الحوثي غزوا مكررا لذلك الغزو الذي كان في صيف 1994، في تلك اللحظة الحرجة التي بدت فيها كل الخيارات مغلقة ومع عمليات عاصفة الحزم، اتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة قرارا جريئا وحاسما بإطلاق عملية “السهم الذهبي”، ولم تكن هذه العملية مجرد تدخل عسكري تقليدي، بل كانت موقفا أخلاقيا وسياسيا عميقا أعاد الأمل إلى عدن وأنقذها من براثن الفوضى والدمار، وبعد مرور عشر سنوات كاملة على تلك اللحظة التاريخية، تدعونا هذه الذكرى للتأمل في التحولات الكبرى التي صنعتها، وإعادة تقييم العلاقة بين الجنوب والإمارات من منظور إستراتيجي وإنساني يعكس عمق هذا الارتباط.

 

لم يكن تدخل الإمارات في 2015 مُفاجئا لِمن يعرف تاريخ العلاقة الوثيقة بين الجنوب ودولة الإمارات. مُنذ استقلال اليمن الجنوبي عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967، كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مُؤسّس الدولة الإماراتية، صاحب أحد أهم قرارات المنطقة في زمن التحرر الوطنيّ.

 

الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قرّر كسر العزلة التي فُرضت على جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعد استقلالها وتوجّهها للنظام اليساريّ. الأنظمة العربية المُحافظة اعتقدت أن عليها أن تُخضع القوى الجنوبية لِتوجّهاتها، وهو ما رأى فيه الشيخ زايد خطأ لا يتوافق مع قيمة ما قدّمه الجنوب في تسريع جلاء الاستعمار البريطاني عن شرق قناة السويس. زيارةٌ كسرت عزلة وصنعت فلسفة سياسية توارثتها الأجيال في أنّ الأخلاق والنُبل خصلةٌ من خصال الرجال الكبار وأصحاب الشِيَم الرفيعة.

 

في الذاكرة العدنية، الشيخ زايد بت سلطان آل نهيان لا يغيب، فلقد عاد بموقفه الأخلاقيّ عندما رفض فرض الوحدة اليمنية بواقع القوة العسكرية الشمالية على الجنوب.

 

هذا الإرث من المواقف لن يكون غير القواعد التي منها جاءت فزعة الشيخ محمد بن زايد في قراره بِدفع القوات الإماراتية لِتكون رأس الحربة في عملية “السهم الذهبي” لِتحرير عدن، ليتوارث آل نهيان كابرا عن كابر المجد الخالد في تاريخ جنوب شبه جزيرة العرب.

 

تحرير عدن في 27 رمضان (يوليو 2015) لم يكن مجرد انتصار عسكري محدود، بل كان لحظة تأسيسية أعادت تشكيل مسار الجنوب، فالقوات الإماراتية، بدعم من قوات التحالف العربي، لم تكتفِ برفع علم الجنوب أولا والشرعية وطرد الميليشيات الحوثية، بل وضعت الأسس لمعادلة جديدة قائمة على استعادة الأمن والاستقرار، وخلال أشهر قليلة، تراجع النفوذ الحوثي بشكل كبير، وبدأت تتشكل قوات أمنية جنوبية قادرة على حماية الأرض والسكان بعد مواجهات مباشرة مع عناصر تنظيمات القاعدة وداعش وهي المرحلة التي تحولت فيها المقاومة إلى التشكيلات الأمنية والعسكرية، لم تقتصر جهود الإمارات على الجانب العسكري، بل امتدت إلى إعادة تأهيل ما يمكن من البنية التحتية التي دمرتها الحرب، حيث تم إصلاح المدارس والمستشفيات وإعادة تشغيل المرافق الحيوية، الأهم من ذلك، أن هذا التحرير أعاد إحياء المشروع الجنوبي الذي كاد يندثر تحت وطأة الوحدة القسرية التي فرضت على الجنوب منذ 1990، مما منح الجنوبيين فرصة جديدة لاستعادة هويتهم وكرامتهم.

 

بعد عقد كامل من تحرير عدن، كيف يمكن تقييم العلاقة بين الجنوب والإمارات؟ رغم تعقيدات المشهد اليمني وتغير الأولويات الإقليمية، ظلت الإمارات الشريك الأكثر التزاما تجاه عدن والجنوب عموما، ففي 2019، أعادت الإمارات تموضع قواتها ضمن إستراتيجية جديدة تركز على تقليص الوجود العسكري المباشر، لكن ذلك لم يعنِ انسحابا من المسؤولية، وواصلت الإمارات دعم الجنوب من خلال مشاريع تنموية كبرى، مثل محطة كهرباء عدن الشمسية التي افتتحت في 2022 لتوفير الطاقة للسكان، إلى جانب تدريب القوات الأمنية المحلية لتعزيز قدراتها، وهذا ما انعكس على أن يكون الجنوب مساحة جغرافية ممتدة تمثل دائما صورة للنجاح القومي العربي.

 

تقييم هذه العلاقة يتطلب نظرة شاملة تتجاوز الحسابات السياسية اللحظية، فتدخل الإمارات في 2015 لم يكن مجرد خطوة تكتيكية لمواجهة تهديد عاجل، بل كان تعبيرا عن رؤية إستراتيجية ترى في استقرار الجنوب ركيزة أساسية للأمن القومي العربي، وأدركت الإمارات مبكرا أن انهيار الجنوب سيفتح الباب أمام مشاريع فوضوية تهدد المنطقة بأكملها، سواء من إيران عبر دعمها للحوثيين، أو من جماعة الإخوان المسلمين التي سعت لاستغلال الفراغ السياسي، لكن هذا الدعم يواجه تحديات معقدة، إذ قد يتعارض أحيانا دعم طموح الجنوب نحو الاستقلال مع مصالح حلفاء آخرين في التحالف العربي، مثل المملكة العربية السعودية، مما يضع الإمارات أمام معادلة دبلوماسية دقيقة تتطلب توازنا بين التزاماتها الإقليمية ودعمها التاريخي للجنوب.

 

وإذا كان يوم 30 نوفمبر 1967 يمثل الاستقلال الأول للجنوب من الاستعمار البريطاني، فإن 27 رمضان 2015 يمكن اعتباره استقلالا ثانيا من هيمنة سياسية وعسكرية جديدة فرضتها القوى القبلية ذات التوجهات الإسلامية، فالمعركة في تلك اللحظة لم تكن موجهة ضد الحوثيين فقط، بل ضد منظومة شاملة حاولت إخضاع الجنوب وإلغاء هويته مجددا، فهذه اللحظة التاريخية أعادت تعريف الهوية الجنوبية، ووضعت أسسا متينة لمسار تقرير المصير، لكن تحقيق هذا الهدف لا يزال مرهونا بتوازن دقيق بين الدعم الخارجي، الذي تقوده الإمارات، والإرادة الداخلية القوية للجنوبيين أنفسهم في مواجهة التحديات المستمرة.

 

الجنوب اليوم يقف أمام تحديات لا تقل خطورة عما واجهه في 2015، فالتهديد الحوثي لم ينتهِ، بل تحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، بينما تسعى جماعة الإخوان المسلمين لتعزيز نفوذها في المناطق المحررة، والاقتصاد الجنوبي يعاني من تدهور حاد نتيجة انهيار العملة وتوقف الصادرات، مما يفاقم معاناة السكان، لكن كما كانت 2015 لحظة حسم عسكري حاسمة، قد يكون 2025 عام الحسم السياسي المنتظر الذي يحدد مصير الجنوب، فدور الإمارات في هذه المرحلة لن يكون تدخلا عسكريا مباشرا كما في السابق، بل شراكة إستراتيجية تركز على استكمال مسار الاستقرار والتنمية، مع احترام طموح الجنوبيين في بناء مستقبل مستقل يعكس تطلعاتهم.

 

ذكرى تحرير عدن ليست مجرد مناسبة احتفالية عابرة، بل شهادة حية على التزام الإمارات الراسخ تجاه الجنوب، ففي عالم تسيطر عليه المصالح العابرة والتحالفات المؤقتة، أثبتت “فزعة عيال زايد” أن الوفاء في السياسة ليس مستحيلا، وإذا كان “السهم الذهبي” رمزا للنصر العسكري في 2015، فقد يكون المستقبل حاملا لسهم آخر، يستهدف هذه المرة تحقيق الاستقلال الكامل المنشود، ليتوّج مسيرة نضال الجنوبيين التي بدأت قبل عقود وتستمر حتى اليوم.

 

عن "العرب اللندنية"