بعد سقوط نظام الأسد ودخول جماعة جبهة النصرة (أو جبهة تحرير الشام) واحتلالها للعاصمة دمشق تتويجا لهيمنتها المتسارعة على معظم المدن السورية الرئيسية، خرجت سوريا من مرحلة الأسد وحكم حزب البعث إلى مرحلة جديدة، يسميها البعض انتصار "الثورة" واكتساب الشعب السوري "حريته وسيادته"، وهي العبارات التي يتكرر سماعها بعد كل سقوط لنظامٍ ديكتاتوريٍ مطلق كما كان حال الكثير من "الجمهوريات العربية" التي خطط حكامها للهيمنة على البلد وتحويلها إلى "عِزَبٍ" خاصة بهم وبورثتهم إلى الأبد، ويترافق مع هذه الضجة الإعلامية المفهومة والمبررة عن الحرية واستعادة الشعب لحقوقه، وما إلى ذلك، يترافق معها حالات احتفالية تعبر عن فرح عامة الشعب بالخلاص من الطغيان الذي عاشته ومن معاناتها معه وآلامها المتصلة بشكل التعامل مع الشعب، باعتباره (أي الشعب) متهمٌ بالتآمر على الوطن (الذي هو هنا الحاكم وعائلته) حتى يثبت براءته وغالباً حتى بعد أن يثبت براءته.
لكن المحتفلين المبتهجين بسقوط الطاغية لم يسألوا أنفسهم: إلى أين تتجه البلد بعد سقوط الديكتاتور وحكمه الاستبدادي؟ وهم معذورون، فليس كل الشعب خبراء في العلوم السياسية أو علم المستقبليات، وكل الذين فقدوا بعض أو كل أهاليهم أعداماً أو موتاً تحت التعذيب في غياهب السجون وظلماتها، وكل الذين عانوا من المطاردة وركبوا البحار هرباً من القمع والاستبداد والموت، وكل الذين كُممَت أفواههم وقطعت ألسنتهم وبترت أعضاؤهم التناسلية وقطعت أيديهم وتعرضوا للاغتصاب داخل سجون الطاغية بسبب مواقفهم السياسية، كل هؤلاء من حقهم أن يبتهجوا ويفرحوا ويحتفلوا، وليس مطلوباً منهم أن يقدموا تقريراً عن تنبؤاتهم بمسارات الأحداث في الغد القريب أو البعيد، لكن الطبقة السياسية هي التي يفترض أن لا تبالغ في بهجتها واحتفائها قبل أن تتأكد أن الأمور تسير في الاتجاه السليم وليست فقط إسقاط طاغية واحد واحتمال استبداله بعدة طغاة جدد.
كعادة الذين يستولون على الحكم بعد سقوط الطاغية يكون همهم الأول توسيع دائرة نشر فضائح وجرائم وأسرار النظام الساقط وزعمائه، بل وحتى اقتحام خصوصياتهم التي لا علاقة لها بموضوع الاستبداد والثورة على الاستبداد.
* * *
في سوريا لم ينجح زعيم جبهة (النصرة) أو "جفش ثم جتش" أن يقدم نفسه كزعيم مدني يسعى من أجل قيام دولة تتسع لكل المواطنين السوريين وتضمن حرياتهم الشخصية المدنية والفكرية والسياسية، فبرغم حديثه عن دولة الدستور والقانون، لم يستطع أن ينسى تعاليم القاعدة وتيارات الإسلام السياسي، وقد رأيناه يرفض الحديث مع إحدى الفتيات التي حاولت الاقتراب منه والحديث إليه فأمرها بتغطية رأسها قبل أن تتحدث معه، ولم يكن أمام المسكينة إلا الامتثال لأوامر "أمير المؤمنين"
وفي أحد لقاءاته النادرة كان يتحدث عن الفرق بين الحجاب وقناع الوجه، وحاول أن يقدم نفسه على أنه متقدم ومدني جداً وليس مثل الإسلامويين المتشددين، قائلاً: قناع وجه المرأة ليس واجباً شرعياً، لكن تغطية الرأس هو الواجب الشرعي، وكأنه بهذا قد أصبح جان جاك روسو أو محمد علي جناح.
لا نود المبالغة في التشاؤم بشأن مستقبل سوريا، ولا يمكن لكل مخلص ومحب للشعب السوري وثورته السلمية إلا أن يتمنى له كل خير واستقرار ونهوض وتقدم، لكن علينا أن نتذكر أن زعيم جبهة النصرة (التي أصبحت فيما بعد جفش ثم جتش) حينما قرر الانفصال عن داعش قد أعلن أنه تواصل مع أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة واستأذنه بتغيير اسم الجبهة إلى (جبهة فتح الشام جفش) للتخلص من مفردة "النصرة" التي ليست بعيدة عن مفردات الإسلام السياسي، ثم جرى التخلص من مفردة "فتح" الشام ليقدم الجبهة للعالم على إنها تستخدم مفردات عصرية ليست لها أي جذور دينية (إسلاموية).
لا شك أن قيادات جبهة تحرير الشام، المهيمنة على المشهد السياسي بعد سقوط نظام الأسد، قد تعرضت لدورات إعادة تأهيل عبر المؤسسات التركية، لتحسين مظهرها وتقديمها على إنها قوة مدنية تستند إلى الـ"دستور والقانون"، وتقبل بـ"التعددية السياسية" والــ"انتخابات الحرة التنافسية"، لكن الاختبار الحقيقي لمصداقية كل هذه الأقوال والتصريحات هو مدى تحويلها إلى أفعال من خلال الممارسة العملية، فما أكثر ما اعتدنا على أن نسمع كلاماً منمقاً وجميلاً من تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي لكنها سرعان ما تتخلى عن كل أقوالها بمجرد وصولها إلى السلطة، فهل ستتميز "جتش" عن شقيقاتها من قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية؟
لننتظرْ ونرَ.
بيد إنني لا أتوقع ممن يرفض الحديث إلى فتاةٍ من مؤيديه لمجرد أنها مكشوفة الرأس، أن يقبل بتسليم السلطة لزعيم شيعي من العلويين أو قائدٍ سياسيٍ من الدروز أو مسيحي أو إيزيدي ولا حتى مسلم سني من أكراد سوريا.
وأخيراً لقد نجحت تركيا في تسجيل هدفاً قاتلاً في مرمى اللاعب الإيراني، باجتياح وكلائها لسوريا وإسقاط الحليف الأول والأقوى لإيران، وبذلك تكون سوريا العظيمة، سوريا التاريخ الحضارة والإباء والإبداع والكرامة قد خرجت من الوصاية الإيرانية لكن لا لتتحرر وترسم سياساتها الحرة والمستقلة بل لتنتقل من الوصاية الإيرانية الروسية إلى الوصاية التركية.
وإن غداً لناظره قريب!