سحرة فرعون، فخر مصر والبشرية جمعاء، انفرد القرءان بذكر قصتهم، وموقفهم البطولي الفذّ، بينما تجاهله اليهود بالطبع، فقصتهم كانت مفخرة للمصريين، وليس لبني إسرائيل، بل إنهم كانوا أكبر تحدٍّ لبني إسرائيل، وكشفًا لخستهم وانحطاطهم.
أما مفسرو الأعراب فكانوا، كعادتهم، أشد يهودية من اليهود، وولاءً لإسرائيل من بني إسرائيل، فزعم بعضهم أن السحرة كانوا من بني إسرائيل! مع أن السحرة كانوا من كافة مدائن مصر، أما بنو إسرائيل كما ذكر كتابهم المقدس، فقد كانوا يقيمون في بقعة محدودة جدا من أرض مصر، وهي كانت حول مدينة بر رعمسيس في شمال شرق الدلتا، وفرعون أرسل يطلبهم من كل مدائن مصر بناءً على أمر من الملأ، أي من مجلسه الاستشاري، فهو لم يكن ليستعين بالشيعة التي يذبح أبناءها ويستحيي نساءها، ولكن مفسري الأعراب كانوا كذا وكذا ......
آمن هؤلاء السحرة بمجرد أن رأوا آية واحدة، أما بنو إسرائيل فلم يؤمنوا أبدا، رغم كل ما رأوه من آيات، إلا قليلا منهم، مثلما سيفعل الأعراب من بعدهم! تحمل السحرة أشد العذاب، وقالوا كلمات سجلها القرءان بمداد من نور علوي:
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} طه.
كان ذلك ردًّا على تهديد فرعون لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}
أما أحفاد الأعراب فقد استعملوا الاسم "سحرة فرعون" كلقب تحقيري! هذا مع العلم بأن هؤلاء السحرة كانوا يحتكرون فيما بينهم علومًا هائلة، كانت تقوم عليها الحضارة المصرية القديمة، كانوا باختصار صفوة علماء وحكماء مصر، وكان هلاكهم كارثة كبرى، بدأ من بعدها أفول شمس تلك الحضارة.
ولقد كرر القرءان ذكر موقفهم المجيد، هددهم فرعون قائلا: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}
قالوا: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)} الشعراء
هؤلاء السحرة أرسل فرعون يجمعهم من كل مدائن مصر كما ذكر القرءان الكريم، وكلمة "مدائن" هي من صيغة جمع الجموع، فهي تعبر عن عدد المدن الهائل في مصر في ذلك الوقت، وذلك أمر كانت مصر تنفرد به، مقارنة حتى بالإمبراطوريات الكبرى التي ستظهر من بعد، والتي كانت أكبر من مصر بكثير من حيث الحجم.
ومن معجزات القرءان الكبرى إبرازه لأمور هائلة تجاهلها كتبة كتاب اليهود المقدس، أو لم يقدروها حقّ قدرها أو قاموا بتسطيحها إلى المدى الأقصى، يكفي قراءة قصة يوسف عليه السلام في القرءان، ونفس القصة في كتاب اليهود المقدس، فقد حوله اليهود فيها إلى مرابي يهودي محتال وجشع، وكذلك فعل مفسرو الأعراب من بعدهم.
أما بنو إسرائيل فرغم كل ما رأوه من آيات لم يؤمن أكثرهم، وحتى من بعد أن عاينوا غرق جيش آل فرعون الذي كان يطاردهم، بمجرد أن رأوا قومًا يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، جهروا بكفرهم، وقد سجَّل الله عليهم في كتابه ما فعلوه:
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} الأعراف.