مطاوعة ينكرون الإمام الأزهري محمد عبده ويتباهون بمعرفة المطرب محمد عبده

2024-06-15 07:23
مطاوعة ينكرون الإمام الأزهري محمد عبده ويتباهون بمعرفة المطرب محمد عبده
شبوه برس - خـاص - الرياض

 

(من أنت يا هذا؟)... "أول موضوعات كتابي (صوت آخر من خارج الصندوق)"

 

*- شبوة برس – فيصل بن ماجد السبيعي

أثناء مروري بفترة المراهقة الفكرية، كنت كثير الانتقاد لبعض الفتاوى المتشددة، وكان ذلك ناتجًا عن اطّلاعي على إنتاج دور النشر العربية بنهم شديد؛ لكون الكتاب في ذلك الوقت هو نافذتنا الوحيدة على العالم، ولم أكن في ذلك متميزًا عن غيري، فكثيرون من مُجَايِلِيَّ وأترابي وَلِدَاتِي كانوا كذلك؛ فأتيح لي فهم صورة واضحة وجميلة للدين تخالف ما تصوره لنا تلك الفتاوى. وقد كنتُ أُوَاجَهُ بالقمع الفكري الشديد من المؤدلَجين، إذ لا يتصورون أن يجرؤ فتًى نكرة على التطاول إلى القامات الشاهقة للمُفتين.

 

لقد كنتُ أُصاب بالبَكَم عندما يسألونني: هل بلغتَ معشار ما لديهم من علم حتى تنتقدهم؟ هل ثنيتَ ركبتيك بين أيدي العلماء؟ هل شابت رموشك مثلهم وأنت تقرأ المتون وتحفظها؟ وعندما أحاول أن أقول لهم - مثلًا - إن الشيخ محمد عبده قال ... يثورون في وجهي ويقولون من محمد عبده؟ ما نعرف إلا المطرب محمد عبده! فأرد بقولي إن هذا ليس مطربًا، بل هو مفكر إسلامي مصري، عندها ينفجرون ضاحكين وهم يقولون بعنصرية مَقَيتَة وبَغَيضَة: ما باقي إلا "المصارية" يعلموننا ديننا.

 

إن المعضلة الكبرى لدى المؤدلَجين هي أنهم يقدسون الأشخاص دون أدنى تفكير في ما يقولونه، وبالمقابل يحتقرون أشخاص المخالفين دون علم بما يقولونه، ولذلك أنا معجب جدًّا بهذه المقولة: (العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص). ثم إنهم يتحسَّرون على الحال التي وصل إليها الناس في تعاملهم مع الدين، حيث أصبح حقًّا مُشاعًا لكلّ أحد يتكلم فيه، وتجدهم يسألونك بتأثُّرٍ بالغ: لو أن مرضًا أصابك ووصف لك الطبيب دواءً أكنت تجادله أم تقبل بذلك دون مِراء؟ فتجيب ببراءة بأنك تقبل دون مساءلة، عندها تتهلل وجوههم فرحًا ليقولوا لك: فما بالك إذا قال أحد الشيوخ قولًا طفقتَ تجادل فيه؟!

 

 والحقُّ أن هذا قياس فاسد شديد التهافت؛ ففهم الدين ليس حكرًا على أحد، وإلا لم تقُم الحجة على كل مَن بلغه الدين، بل بإمكان أي إنسان ذي عقل عاديّ أن يفهم دينه بما يحتاجه منه، ثم يتفاضل الناس كلٌّ حسب قدرته العقلية وفهمه وقراءته واطلاعه وبحثه دون تقديس لأي أحد. وأذكر رجلًا كبيرًا في السن من أصدقاء والدي رحمه الله وكان أُميًّا خالصًا؛ ولكنه كان مدمنًا للبرامج السياسية الإذاعية التي تبثها البي بي سي، ومنها برنامج (السياسة بين السائل والمجيب)، فكان يتفوق على خريجي الجامعات في أي نقاش سياسي.

 

ثم إنه ليس من الضروري أن يستوفي الراغب في تثقيف نفسه دينيًّا تلك الشروط التي لا أعلم من وضعها، وهي أن تحفظ - لا أن تقرأ وتفهم وتنقد - الكتب الستة والعقيدة الطحاوية وبلوغ المرام والروض المربع ومتن الآجرومية والنونية الفلانية والأرجوزة العلانية، وغير ذلك من الكتب القديمة، والتي هي - في معظمها - مصادر لها احترامها وتقديرها؛ ولكن ليس لدرجة إرهاق العقل في حفظها عن ظهر قلب وترديدها دون فهم، بينما لو صُرف ذلك الجهد الكبير لتدبُّر كتاب الله ثم عرض تلك الكتب عليه؛ لتغيّرت حالنا إلى الأفضل منذ قرون مضت. وإنني أعرف أناسًا يتقنون - مثلًا - قواعد اللغة العربية بصورة مذهلة، وهم لا يحفظون بيتًا واحدًا من ألفية ابن مالك.

 

إن ثَنْيَ الرُّكَب عند الشيوخ لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج نسخ مكررة من أناس عاشوا قبل مئات السنين، وهذا تجميد مروِّع للدين، وظلمٌ شديد للمسلمين في هذا العصر؛ إذ إنه بمثابة اغتيالٍ للدين في فترة معينة ثم تحنيطه في متحفٍ يتحلّق حوله المؤدلجون وبأيديهم سيوفٌ مصلتة من التجهيل والتبديع والتفسيق، وقد يصل الأمر إلى التكفير. وهم يخوِّفون بتلك السيوف كلَّ من تسوّل له نفسه أن يقترف جريمة التفكير فضلًا عن النقد والمراجعة وإعادة التقييم.

 

وكثيرًا ما نسمع من أقوال أولئك القوم عبارات مثل (الوقوف عند فهم السلف الصالح) و (باب الاجتهاد قد أغلق) و (أجمع العلماء). لماذا لا نفهم ما يغاير فهم ذلك السلف؟! ألسنا بشرًا وهم بشر؟! وخاصةً في ما يتعلق بعصرنا الذي نحن أهله ونعيش فيه، ولا دخل للسلف بنا فقد كان لهم فهمهم المبني على معطيات عصرهم. وباب الاجتهاد يجب أن يعاد فتحه على مصراعيه لتبدع فيه العقول النيّرة التي لم تَعْقُم الأمة عن إنجابها. ثم ما هو الإجماع؟ ومن الذي أجمع؟ وبأي حق يقررون في عصرهم ما يجب علينا فهمه في عصرنا نحن؟!

 

يُذكر عن أحد الشيوخ ممّن تميَّزوا بروح الدعابة والسخرية اللاذعة، أنّ أحد طلابه قال له: أبشرك يا شيخ، فلان حفظ القرآن كاملًا. ولأن الشيخ يعرف فلانًا هذا ويعلم أنه يقرأ ولا يفهم؛ فقد ردّ ببرود قائلًا: الحمد لله، زاد عدد المصاحف واحدًا. وهذا الشيخ هنا يضع المِبْضَعَ على الجرح تمامًا؛ فالحفظ وحده يجعلنا مجموعة من الببغاوات لا أكثر.

 

لذلك فإنني أستأنس بما يُروى من أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يُجاوزون عشرَ آياتٍ حفظًا حتى يفهموهن ويعملوا بهنّ، وهذا والله هو منتهى الوعي والفقه في الدين، فلِلّه دَرُّهُم ما كان أَعلَمَهم بدينهم.

 

إن التلقين المجرّد عن الفهم جريمةٌ في حق الناشئة من أبناء المسلمين وبناتهم، وهو جريمة لأنه يجعلهم عاجزين تمامًا عن فهم دينهم فضلًا عن الدفاع عنه، وذلك في حلبات الصراع الفكري ذي النار المستعرة في هذا العصر المادي الجامد، وما صاحب ذلك من ارتداد عن الدين واعتناقٍ للإلحاد واللادينية والربوبية وغيرها، ثم العودة إلى الإسلام لا اعتناقًا وندمًا؛ بل طعنًا وتشويهًا، في حرب ضروس ليس لدينا – مع شديد الأسف وعظيم الأسَى – العددُ الكافي من العقول النيِّرة لتناضل وتنافح في تلك الحرب العشواء الشعواء، عن الإسلام وكتاب الإسلام ورسول الإسلام باسم ربّ الإسلام.

 

هذا وإن تربية النشء على تقديس أقوال الرجال، سيجعل من المستحيل علينا أن نحظى بعقول ناقدة ومتسائلة وبالتالي مُجدِّدَة ومُصلِحة، وهذا ليس في مجال الدين فحسب، بل في كل المجالات دون استثناء.

 

وقد استقريت آيات الكتاب المجيد وما مرّ بي من الأحاديث النبوية الشريفة؛ فلم أجد أمرًا أو حَثًّا على حفظ القرآن، بل وجدتُ لومًا من القرآن لأولئك الذين لا يتدبرونه، ووصفًا لقلوبهم بأنها مقفلة، قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد 24، كما وجدت الرسول الأعظم يأمر بقراءة القرآن في مواطن كثيرة ولم يذكر الحفظ إلا نادرًا.

 

لذلك فإنني أرى أن الذين لم يُؤتَوا مَلَكَة الحفظ ويشق عليهم كثيرًا، ويظلون في مراجعة دائمة لما حفظوه بعد جهد جهيد خوفًا من نسيانه؛ أرى أنهم قد كلّفوا أنفسهم ما لا تطيق، وصرفوا أوقاتهم في أمرٍ هناك ما هو خير منه. فلو أنهم بذلوا تلك الجهود والأوقات في التدبُّر والتفكُّر والتأمُّل والاستنباط؛ لحصلنا على جيل من المفكرين لا الحفاظ، والناقدين لا المقلِّدين.

 

لقد كان الحفظ ضروريًّا عندما كانت المصاحف شديدة الندرة، فمن لا يحفظ شيئًا من القرآن فسيُحرَم قراءتَه، أما الآن فهناك ملايين النسخ من المصاحف الورقية وأضعافها من النسخ الرقمية. وإني لأتعجب من اشتراط حفظ القرآن كاملًا لأئمة المساجد، إذ لا أرى بأسًا في أن يقرأ الإمام من الجوال بدلًا عن معاناته مع مراجعة الحفظ، أو إحراجه أمام المصلين بانتظار من يفتح عليه عند نسيانه لإحدى الآيات.

 

وجميلٌ أن يُستثمر الوقت المهدر في مراجعة الحفظ في التدبر والتأمل، ثم إعطاء درس قصير بعد كل صلاة جهرية عن معنى الآيات التي تمت تلاوتها في الصلاة، بدلًا من أن يقرأ بطريقة الهَذِّ من كتبٍ مغبرّة في المسجد، أمام أناس يتثاءبون من طريقة القراءة وبُعد المقروء عمّا سعموا للتوّ من آيات.

 

وأعود لأقول: إن احتكار العلم والفهم من قبل مجموعة من الناس لم يعد مقبولًا في عصرٍ أصبحت فيه المعرفة متاحة للجميع، وأصبح بإمكان جهاز في حجم الكف أن يطوف بك العالم من مكتبة الكونغرس إلى متاحف المخطوطات في أوروبا بل وحتى ما يحفظه الصينيون من الحكمة الكونفوشيوسية. كما أن اكتظاظ المنصات المسموعة والمرئية - كاليوتيوب - بمئات الساعات لمحاضرات المختصين في كل علم وفنّ، قد ساهم في فتح آفاق واسعة جدًّا للمعرفة لم يكن يحلم بمِعشَارِها أغزرُ الناس علمًا في العصور الخالية.

 

وبالرغم من أن المعرفةَ أمر جيد، واتساعَ أفق التفكير في العقل الجمعي شيءٌ محمود؛ إلا أن تلك الأمواج الهادرة من المعلومات والأفكار لا تحمل لنا الجميل فقط، بل يركبها السيّئ أيضًا، حيث تزخر بأعداء الدين وهم يحملون عُروضًا مغرية لترك الدين الذي هو عندهم "أفيون الشعوب"، واعتناق الإلحاد الذي هو حرّية لذيذة، ويتتبعون ما يمتلئ به موروثنا من فوضى ليقولوا للمسلمين إن دينكم فيه كذا وعقيدتكم يعيبها كذا.

 

وإن في ثنايا تلك الأمواج العاتية حربًا ضروسًا ضد الإسلام تستلزم جيلًا قويًّا مسلّحًا بالفهم العميق لدينه العالمي، لا جيلًا يهيم في كتب التراث حفظًا وترديدًا دون أدنى فهم؛ ليَرضَى عنه البعض ويَصِفُوه بأنه من عباد الله الصالحين.

 

*- كاتب وشاعر وناقد، مهتم بالدراسات القرآنية - نقد الموروث - نقد الإلحاد - اللغة والأدب. من نافذته على منصة إكس