الذين يعملون في السياسة، نوع فريد من البشر، يكذبون كما يتنفسون، ولا يُحرّمون ولا يُحلّلون، ولا خطوط حمراء لديهم، يتلونون كالحرباء، أو ربما يعلمونها كيفية التلون، في جيب أحدهم مليون قناع، كلها جاهزة للاستعمال . تشعر أنهم يفرون خوفا من التقريع، أو لأنهم لا يطيقون أن ينظروا إلى أنفسهم صحبتهم كصحبة نافخ الكير، إن لم تصبك شرارة من ناره، اختنقت برائحة كيره !!
معظمهم يفهمون السياسة ليس فن الممكن، كما هو شائع، بل فن السلب والنهب، وتكديس الغنائم !!
مما أعجبني من أقوال عن السياسة:
بما أن رجل السياسة لا يصدق أبدا ما يقوله، فإنه يفاجأ إذا ما صدقه أحد- شارل ديغول- الدبلوماسي هو شخص يمكنه أن يقول لك عبارة «اذهب للجحيم» !!
إن السياسي الجيد هو ذاك الذي يمتلك القدرة على التنبؤ، والقدرة ذاتها على تبرير لماذا لم تتحقق نبوءته. - ونستون تشرشل -
سيفعل السياسي أي شيء للحفاظ على وظيفته، حتى لو اضطر لأن يصبح وطنياً. - ويليام رونالد ولف-
السياسة فن منع الناس من التدخل فيما يخصهم. - بول فاليري -
فن السياسة يتضمن أن تعرف بدقة متى يكون ضروريا أن تضرب خصما تحت الحزام !!
لا يوجد شعب مارس السياسة ودخل دهاليزها وعرف مداخلها ومخارجها مثل الإنجليز، لما مروا به في تاريخهم من غزوات خارجية وحروب، حتى بين بعضهم بعضا، ومؤامرات ودسائس، هذا غير تاريخهم الطويل في المستعمرات الذي يمكن أن تؤلف فيه مئات المجلدات في السياسة وألاعيبها وكيفية السيطرة على الشعوب، وكيفية إدارة موارد العالم، والدسائس والمسامير مثل مسمار جحا في كل مكان في العالم.
كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولك أن تتصور أن بلدا كان يدير سياسة أكثر من 50 دولة حول العالم، وكل من هذه الدول تحتوي على عدة عرقيات وأقاليم مختلفة ومتحاربة فيما بينها، وكيف لك أن تنسق بينها لتكون المحصلة النهائية مفيدة لبريطانيا، وكانت عمليا تحلبهم حلبا.
بريطانيا أحسنت بالخروج من الرجل المريض (الاتحاد الأوروبي) ليس لأن الاتحاد الأوروبي تتحكم فيه فقط دولتان هما فرنسا وألمانيا، وليس لأنه لا يملك نفوذاً دولياً، وليس لأن الأوروبيين حاليا ليس لديهم قوة عسكرية أو اقتصادية، بل ليس لديهم الرغبة والإرادة للتدخل بالعالم، ولولا الحماية الأمريكية لكان الجنود الروس يتمشون في منتصف أوروبا !!
إذا كان الإنجليز بهذا الدهاء والمكر وبعض الخبث، إذن لماذا انحدرت قوة بريطانيا العظمى؟.
الجواب ببساطة أن هذا هو تاريخ البشرية والأمم، فالدول تمر عليها موجات علو ومن ثم تنحدر كما هو تاريخ بقية الأمم،
قد يقول قائل إن أوروبا حاليا بوجود فرنسا (المنافس التاريخي لبريطانيا) وألمانيا ومن ورائهم دول الاتحاد الأوروبي ستنافس بريطانيا وتحجمها !!
أستطيع القول إن الفرنسين والألمان ليسوا ندا للإنجليز بالسياسة، الإنجليز يدخلون الفرنسيين من هذا الكم ويخرجونهم من الكم الآخر.. فالتاريخ علمنا أن الإنجليز لا ينسون.
إذا كان الإنجليز بهذا الدهاء والمكر وبعض الخبث، إذن لماذا انحدرت قوة بريطانيا العظمى؟.
الأذكياء هم من يميزون بشكل واضح، بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، بعكس الأغبياء الذين لا يميزون بين واقعهم وإمكانياتهم، فتلازمهم نشوة المكابرة والعناد،
السياسة فنون، ولا بدّ للدهاء في عمل السياسي، والبراعة في كل فن، تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والتدرب في مسالكه، فهذا عسكري خبير بسياسة الحرب، لكن بصيرته في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا الداخلية في أحكم نسق، لكنك إذا دفعته لخوض الشأن الخارجي، ضاقت عليه مسالك الرأي، وربما جنح إلى السلم، فيما الحرب أشرف عاقبة، أو أَذّن بحرب، بينما الصلح أقرب إلى مصلحة الوطن وختاما نقول :
إن حبال السياسة طويلة ومعقدة ولا يفك رموزها وطلاسمها سوى الدهاة والعباقرة .
د. علوي عمر بن فريد