لم يعد شيء في مدينة عدن اليوم يذكّر بما كانت عليه في حقب كثيرة مضت: عدن المحميّة البريطانية الكولونياليّة، عدن حركة النضال ضدّ الاستعمار والتحرّر منه، عدن الرفاق والحزب الاشتراكي الماركسيّ. فهذه كلّها بدأت تزول وتمّحي في بداية عهد الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه في التسعينيّات من القرن الماضي، وصولاً إلى الحرب التي يعيشها اليمنيّون اليوم، وكرّست القبلية والعشائرية والخنجر وتوابعه من الأزياء بدل ربطة العنق بين فئات الطبقة المتوسطة والنخبة، حتى في عدن.
عرس عدنيّ
حوادث وصور يمنيّة كثيرة تشير اليوم إلى حيرة اليمنيين وتيههم في حمأة حروبهم: على أيّ وجه يتدبّرون شؤون حياتهم القلقة المضطربة وسط إيقاعات الرصاص والدم. وربّما يجسّد وجهاً من وجوه هذه الحيرة ما دار في خلد شبّان من مدينة عدن، حينما قرّر أحدهم في حفل زفافه، وسواه في أعراسهم، أن يلبسوا أزياء شعبية لم تعُد اليوم معروفة حتى في مناطق أجدادهم القبليّة. ففي صور احتفالات الزفاف تلك بدا العرسان الذين تتمنطق صدورهم بـ"مسبت" (حزام جلدي يزنّر الصدر على شكل علامة X) كأنّما خرجوا من خليط أزمنة: من بين دفّتَيْ كتب الفتوح القديمة، أو قفزوا إلى الواقع من شاشة المخرج مصطفى العقّاد في فيلمه المعروف "الرسالة". وهم يلفُّون رؤوسهم أيضاً بشالات ملوّنة كانت شائعة قديماً في القرى والبوادي، ويمنطقون خواصرهم بخناجر، فيما يعلّق بعضهم بأكتافهم بنادق، وآخرون يرفعونها عالياً بأيديهم. وهناك من يشهر بيمينه سيفاً. وربّما لم يكن ينقص سوى صهوات الخيول لتكتمل مشاهد الزفاف هذه وما تشير إليه هذه الرموز من علامات تنطوي على الفحولة الذكورية التي غذّتها الحرب.
وها العريس العدني يتمنطق بخنجر ويحمل سيفاً وبندقية في ليلة زفافه، قبل دخوله على عروسه، كأنّما هذا استدعاء صارخ لرموز القبيلة والعشيرة، ومبالغة في غير مكانها الجغرافي والزمني. وهذا يتناقض مع ما عرفته عدن وأهلها من سلوك مدنيّ غلب على حياتهم ولباسهم "المتفرنج" في ما مضى من زمن مدينتهم وطالما تباهوا وتشاوفوا به على باقي المدن اليمنية، فيحار مشاهِد العرس بين أن يحمل هذه الأزياء على معنى مسرحي احتفالي أو على معنى بطولي، ذكوري وحربي، أو يعتبرها استعادة لهويّة يشعر أصحابها أنّها مهدّدة.
الواقع أنّ اليمن تكتنفه هويّات متنوّعة ويزخر بعادات وتقاليد وطرق عيش عديدة ومختلفة تتنوّع من منطقة إلى أخرى
وربّما تصحّ في حال العدنيين، واليمنيين عامة، في حاضرهم المحترب، عبارة الكاتب الفرنسي - اللبناني أمين معلوف في كتابه "الهويّات القاتلة" المستوحى من المآسي اللبنانية: "يتماهى المرء مع أشدّ انتماءاته تعرّضاً للتجريح. وعندما يسيطر هذا الانتماء الجريح على الهويّة يولّد تضامناً بين الأشخاص الذين يتقاسمونه".
والحقّ أنّ بلداناً وجماعات عربية عدّة تعيش اليوم في حمأة انتماءات جريحة. فالحروب تُدخل المجتمعات في أوضاع غير معتادة، وتدفع أهلها إلى عادات وأفكار وسلوكات منكفئة متقادمة. وفيما يصدّع الصراع والاقتتال بُنى حياة اليمنيين الاجتماعية المعقّدة أصلاً، يلجأون إلى إنشاء مجتمع - عالم موازٍ لذاك الذي قوّضته الحرب. هكذا تطفو على شاشة الوعي الجمعي هواجس يعوّض بعضها عن شعور الجماعات والأفراد بالفقد والضياع.
والضائعون التائهون غالباً ما يبحثون عن ملاذات يعتبرونها فواصل قصيرة بين نكباتهم المتلاحقة، وسبيلاً لمواجهة انسداد أفق حياتهم. وأوّل ما يتبادر إلى أذهانهم هو الانكفاء إلى زمن ماضٍ يتراءى لهم بعين حاضرهم كأنّه فردوسهم المفقود أو الضائع، فيجهدون لاستعادته.
الحرب والزيّ والقبيلة
لكنّ مدينة عدن ليست مثالاً وحيداً، وإن كان هو الأفدح لناحية خصوصية المدينة التي سجّلت سبقاً في مظاهر التمدّن، ليس في محيطها الجغرافي اليمني فحسب، بل في الجزيرة العربية كلّها. وقد رتّب لها ذلك موقعها السابق كإحدى أهمّ محميّات خطوط ملاحة التاج البريطاني، ثمّ في زمن حكم الرفاق الاشتراكيين وما رافقه من دعوات إلى الانفتاح والتحرّر وكتمان العلاقات والولاءات القبلية التي عادت وانفجرت في زمن الوحدة وحكم علي عبدالله صالح.
قد تكون العودة إلى الزيّ القبلي وما يحمله من إحالات إلى القوّة والبأس، من صنائع الحرب ومجتمع الحرب القائم على انقسامات قبليّة، وتكريس هذا الزيّ ظاهرةً عامّةً انتشر أخيراً في بعض المدن اليمنية التي غادر أهلها هذه التقاليد القديمة في معاشهم واحتفالاتهم، أو كأنّما تمزُّق نسيج المجتمع في زمن الحرب حرّض اليمنيين على ردود فعل تمكّنهم من رتق ما مزّقته الحرب من عصب كينوناتهم الاجتماعية، وحياتهم المدنية وعلاقاتهم الأسرية. لذا راحوا يبحثون عمّا تقادم وصار يتأهّب للنسيان من هويّاتهم ليعيدوا بعثه.
وهذا يفتح المجال للحديث عمّا أشاعه نظام علي عبدالله صالح عن واحديّة الزيّ والهويّة والثقافة والتقاليد في اليمن. فنظام صالح التوحيديّ بالعسف والقهر واظب على تدابير تجريف ثقافة المناطق اليمنية الأخرى، وخصوصاً الجنوبية في عدن وحضرموت وسواهما، وطمسها لإظهار هويّة وحيدة لليمن تحيل إلى صنعاء وما حولها في الشمال. وهذا السلوك أجّج غضب الجنوبيين، إذ رأوا فيه دليلاً على غطرسة نظام الوحدة وتدميره ثقافتهم المميّزة. وقد يكون ما يستعيده العدنيون والحضارم والجنوبيون عامةً من أزياء وعادات قديمة نوعاً من عودة المكبوت، حسب العبارة الفرويدية الشهيرة.
والحوثيون اليوم يخوضون حرباً بالوكالة على الأرض اليمنية. لذا فجّر سؤال الهويّة، الذي استيقظ لدى اليمنيين، لجوءاً إلى غياهب التاريخ المتقادم لدى الجماعات
الحوثيّ وانبعاث الهويّات
الواقع أنّ اليمن تكتنفه هويّات متنوّعة ويزخر بعادات وتقاليد وطرق عيش عديدة ومختلفة تتنوّع من منطقة إلى أخرى. وهذا ما حدا ببعض المناطق كحضرموت إلى ألّا ترى نفسها يمنيّة تاريخاً وثقافةً. ومثل الحضارمة يرى سكّان المهرة في الجنوب على حدود عُمان، فأهلها يتكلّمون إلى جانب العربية لغة خاصة بهم هي "الأمهرية" المعتبرة من اللغات السامية القديمة. ويتصاعد هذا التمايز والافتراق بين هويّة الجنوب وهويّة اليمن الشمالي. وهذا ما يبرزه الجنوبيون اليوم في خطابهم السياسي والثقافي مطالبين باستعادة دولتهم المستقلّة.
بعثَ راهنُ اليمن المأزوم، إثر اجتياح جحافل جماعة الحوثي مدن الشمال وبعض الجنوب، قبل أن يستطيع الجنوبيون ردّهم عنها، خطاباً سلاليّاً ومذهبيّاً تمييزياً حوثيّاً يتلقّى دعمه المذهبي من إيران الوليّ الفقيه الفارسي، حسب التوصيف الشائع لدى المناهضين للجماعة الحوثية.
والحوثيون اليوم يخوضون حرباً بالوكالة على الأرض اليمنية. لذا فجّر سؤال الهويّة، الذي استيقظ لدى اليمنيين، لجوءاً إلى غياهب التاريخ المتقادم لدى الجماعات. ولم يقتصر تشنّج الهويّات على العودة إلى الأزياء الشعبية القديمة، كرمز للتمايز الثقافي، بل تجاوز الأمر الأزياء إلى ظهور دعوات تطالب باستعادة هويّات يمنية يراها الداعون إليها جوهرية وثابتة وتعود في منبتها الأوّل إلى ألوف السنين، حيث الأعراق النقيّة الخالصة، على ما تذهب جماعة تلقّب نفسها بـ "الأقيال"، بمعنى "السادة أو الملوك". وهذا لقب استُدعي من لغة الممالك اليمنية الغابرة في القدم. وإن بدت دعوتهم غير ذات أهمية وأشبه بدعابة، ولا تكتسب صدىً واسعاً ولا قوّة داعمة بين معظم اليمنيين، فإنّها تحيل إلى ما يعتمل في المجتمع اليمني من تصدّعات وردود فعل سببها المذهبية الحوثية حالياً وسواها من الحروب.
إقرأ أيضاً: قات النساء في اليمن ينتقل إلى إسرائيل(2)
وإذا ظهر هذا كلّه حالياً كسلوك فولكلوري رمزي مادّته الأزياء لدى البعض، أو مماحكات على مواقع التواصل الاجتماعي لدى البعض الآخر، فإنّه ينطوي على إعلاء شأن هذه الجماعة أو تلك ردّاً على امتهان كينونتها وتفتيت عصبها القبلي والعشائري من قبل جماعة الحوثي وسواهم. وتنطوى لدى الجنوبيين على ردّ على الغبن الذي لحقهم من نظام الشمال.
.