الحلقة الثانية والأخيرة
أهدي هذا المقال والمواساة إلى كل أم فقدت ابنها ..وإلى كل أب فقد ابنه.. وإلى كل زوجة فقدت زوجها.. وإلى كل ابن فقد أبيه .. أو شقيقه ..أو صديقه في هذه الحروب المشتعلة في اليمن منذ أكثر من ستين عاما إليكم جميعا أهدي هذا المقال:
الأب لولاه ما عرفنا للرحمة معني، ولا للأمان طوقا، ولا للعطف سبيلا ولا للرشاد دروبا، ورغم علامات الصرامة التي تعتلي قسمات وجهه وسلوكه المتسم بالحسم، والمهابة التي تعلو جبهته، إلا أن قلبه الدافئ يختزن مشاعر تملأ الكون رحمة وحنانا ، فالأب هو واحة الأمان التي تستظل بظلالها الأسرة في صحراء الحياة الموحشة، وهو المأوى والسكن والملاذ الآمن دائما في مواجهة ظروف الحياة. ورغم انشغاله بأعماله لتدبير طلبات الأسرة، إلا انه لا ينسى للحظة واحدة أحبابه الصغار، وما إن ينتهي من عمله حتى يسرع إلي بيته ويحتضن صغاره ليعوضهم ساعات الغياب في لحظات دفء أبدي فتنزل الرحمات والأمان على الصغار والكبار بالعش الأسري.
ورغم إن بعض الآباء يخفون مشاعرهم ولا يظهرونها، إلا أنهم سرعان ما تنجرف مشاعرهم كالسيل لحظة توعك أحد أبنائهم أو تعرضهم لأي أذى، فيهب الأب لنجدة أبنه وحمايته من أية نازلة تهم به، وهنا يدرك الأبناء معنى الأب كرمز حامي ومحتضن ومنقذ من أي هلاك منتظر. فالأب يحمل في وجدانه روح الفارس الشجاع الذي يضحي بنفسه فداءا لأبنائه، فيصبح قدوة لهم في مواجهة أعاصير الحياة. ولاشك أن مشاعر الأبوة الفياضة تسهم بشكل كبير في تحقيق السواء النفسي والعقلي للأبناء، وهذا السواء يشكل سدا منيعا لهم في مواجهة العقبات التي يصادفونها في مشوار حياتهم الطويلة.
يكفي الأب شرفا إنسانيا خالدا انه يعطي بلا مقابل سوى أن يشعر أبنائه بالسعادة، وان هدفه الأسمى هو توصيل أبنائه إلى شاطئ الأمان بعد أن عاش عمره من أجل أن يكون سفينة النجاة في مواجهة أمواج الحياة العاتية والمضطربة.
ولطالما ساهم الآباء بعطائهم اللانهائي وبعطفهم وحنانهم في تشكيل وعي وجدان أبنائهم المبدعين من الشعراء والروائيين والكتاب ، وعكست هذه الكتابات قيمة مشاعر الأبوة وتضحياته الجسام، وروح الفروسية النبيلة في تجليات العطاء الغير محدود .ولقد خلدت العديد من الأعمال الأدبية في الشرق والغرب، هذه المعاني الشريفة لصورة الأب المعطاء والحنون ولا زالت موجودة في الأدب العربي .
أبي : يا موطن قلبي ومسكن روحي وترياق نفسي وهوى فؤادي وبيتي وسكني وذخر عمري في كل وقت وحين، وبرغم إنني فقدتك مبكرا عندما اغتالتك الأيدي الآثمة في آخر شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم التي كانت القبائل العربية في العصر الجاهلي تحرم القتال فيه !!
لقد أسقط القتلة من أذناب الشيوعية كل القيم والتعاليم الإسلامية بل وحتى الشيم و الأعراف القبلية الجاهلية ورحلت عنا ولم أحضر جنازتك إلى مثواك الأخير وكنت خارج الوطن خلف الستار الحديدي ووسدك الخيرون داخل قبرك في الليل المظلم البهيم وهذا آلمني كثيرا ..لكن نبضات قلبك تحتويني وتضمني في أشد أوقاتي ظلمة، وتشع روحك الطاهرة على نفسي بنسمات الربيع الساحرة فتنعشني ويغشاني ندى حنانك في السحر كما يغطي الندى بقطراته الورود فيزيل عنها ما ألمها من حر الهجير.
تستحضر نفسي روحك الطاهرة في برزخ الشهداء، يا شهيد الحق فتنجلي الهموم عن فؤادي وتنبسط سريرتي وتتملكني قوة روحية تحييني من عدم فأنطلق بكل قوتي في الحياة متجاوزا كل العقبات والتحديات.
فلولاك يأابي ما عشقت العلم و الفنون والآداب التي تروي ظمأى الدائم في الحياة، فبيتنا كان ملاذا للشرفاء من رجال القبائل والسياسيين والأدباء والشعراء والمبدعين يبحرون في شتي آفاق الفنون المعرفية، وفي وسط هؤلاء الرجال تغذت روحي علي حب العلم وأهمية الفكر والانتصار للقيم الإنسانية الرفيعة. وأنت يا أبي
الشهيد قدمت روحك الطاهرة فداءا لوطنك ولأجل ما أمنت به من قيم الانتصار للعروبة، وروحي وقلبي وعقلي وكياني كله يفتخر بنضالك وبفروسيتك النبيلة، وأؤكد لك انك لم تغب يوما عني فأنت تسكنني، وأنا أسكنك وطنا دافئا حنونا آمنا، وأنت تضئ شمعة أيامي إذا ما هبت رياح العواصف، وأنت من يمسح دمعة الفؤاد إذا ما اشتعل بالشوق إليك فتسارع لاحتضاني في حنان سرمدي، فإليك كل حبي يا نبع العزة والكرامة والعطاء.
أبي الغالي : أكتب إليك هذه السطور وأنت الآن بين يدي الله وفي رحابه ولكنني
سأكتبها بقلم حبره دموعي.. وحروفه ألم جروحي.. وكلمات تخفق في فؤادي.. سأكتب عن فراقك.. وحرقة فؤادي.. فلا شيء في حياتي يستحق أن أكتب عنه سواك..نعم أنه فراق الأحبة.. كم أحرق كبداً رطبة؟! وكم أرهق قلباً محباً؟! وكم أبكى مقلة هادئة؟! وكم أضرم في الأحشاء ناراً؟! وكم ألهب في القلوب سعيراً؟!
لقد رحلت يا أبي وفي حنجرتي صرخة مبتورة.. وقلبي أنينه بعدد قطرات البحر وحبات المطر.. وأحاطني الأسى وكأنه نار يحرقني.. مرت سنوات وأنا أتجرع مرارتها وأ شعر بألمها وقسوتها.. الروح والدمع وكل ما فيّ يعاني..ولكن عزائي يا أبي أن الله جل في علاه قد أصاب قاتلك برصاصة في قلبه وانتقم لك منه العزيز الجبار بعد أقل من عام في نفس الوقت الذي اغتالك فيه حين كانت الشمس تميل إلى الغروب ..فسبحان الله العظيم .
لقد رحلت يا أبي ومصابنا والله فيك كبير.. فالصغير يبكيك قبل الكبير.. والبعيد قبل القريب.. وكل ما يحيط بنا يبكيك.. وعزاؤنا يكفينا أنك لم ترتقي شهيدا وحدك ولكن كان قبلك وبعدك آلاف الرجال من الشهداء الأبرار من أبناء الجنوب فسلام عليكم أجمعين حين واجهتم الموت بشجاعة وجباهكم مرفوعة ولم تنحنوا ولم تجزعوا ولم تخضع رقابكم وجباهكم إلا لله وحده .
محبكم جميعا د. علوي عمر بن فريد